"الإمام الشاب".. صورة حقيقية ودقيقة عن الإسلام في فرنسا

تضم فرنسا أكبر جالية مسلمة في غرب أوروبا، ما يجعل من قضية الإسلام مسألة محورية في كل نقاش ثقافي أو اجتماعي أو سياسي أو غيرها من المواضيع. ولكن الغالب في السينما التي تعالج قضية المسلمين في فرنسا هو النظر من زاوية واحدة، وقد كرست نظرة نمطية للإسلام والمسلمين. وهذا ما يحاول تجاوزه المخرج الفرنسي كيم شابيرون في فيلمه "الإمام الشاب".
“الإمام الشاب” عنوان فيلم فرنسي يعتمد على حكاية بسيطة لكنها مهمة ومؤلمة. إنَّها عن أولئك الذين يستغلون فقراء المهاجرين ويأخذونهم لأداء فريضة الحج مقابل مبالغ باهظة.
المخرج كيم شابيرون يتعاون مع لادج لي الذي نشأ معه ليحكي قصة مستوحاة من قصة حقيقية (والتي تصدرت عناوين الصحف قبل بضع سنوات). بتعبير أدق، فإن الإمام الشاب مستوحى من العديد من الحقائق حول عمليات الاحتيال في الحصول على تأشيرات الحج إلى مكة المكرمة.
التحول والمأساة
يأتي الفيلم في وقت يتصاعد فيه الجدل حول الهجرة واختلاف الثقافات وتعلو أصوات ممثلي اليمين المتطرف ضد الملايين السبعة من المسلمين الذين باتوا يشكلون عشرة في المئة من ساكني البلاد. في فرنسا اليوم 2600 مسجد و1800 إمام. ومع تزايد عدد المسلمين في فرنسا (تشير تقديرات غير رسمية إلى أنّهم بلغوا 10 ملايين تقريبا) ثاني أكبر دين بفرنسا، من الطبيعي أن يتحوّل الأمر إلى ملف سياسي.
وأمام الحضور المتزايد للمسلمين في فرنسا، صار من الطبيعي أن تكون تفاصيل حياتهم ومشكلاتهم موضوعا للعديد من الأفلام والروايات والصحف وبرامج التلفزيون. الفيلم من إخراج الفرنسي كيم شابيرون وبطولة الممثل الأفريقي الأصل عبدالله سيسوكو، في البداية يجتمع الجيران في شقة مدام ديالو، والدة علي، للاحتفال بتقاعد الشيخ العجوز وانتهى الاجتماع بفضيحة حين تسرق محفظة الإمام عبدالعزيز والسارق هو المراهق علي إبن الرابعة عشر عاما.
يعفو عبدالعزيز عن علي ويرفض اتهامه بالسرقة. لكن والدته المرأة الأفريقية الصارمة (هادي بيرثي)، تشعر بالخزي من فعلة ولدها وتقرر معاقبته بإرساله إلى أعمامه في قرية في مالي. هناك سيتربى ويتأدب على يد الشيخ أبو بكر (إيساكا ساوادوغو)، يعود علي إلى مدينته بعد عشر سنوات. على الرغم من شكوك والدته، فإنه مستعد لفعل أي شيء للتألق، أبهر علي الحي بموهبته في قراءة سور القرآن والتجويد، وأصبح يتمتع بشعبية متزايدة، عرض عليه أن يصبح الإمام الجديد ووافق علي على الفور، وقرر تنظيم رحلة حج إلى مكة المكرمة للمصلين في جامع الحي.
بعد الخطاب السام بشكل متزايد في فرنسا المحيط بالإسلام بعد هجمات باتاكلان في عام 2015، التي أججتها شخصيات سياسية يمينية متطرفة أمثال مارين لوبان وإريك زيمور، أراد المخرج الفرنسي شابيرون إعطاء صورة جميلة عن الدين الإسلامي من خلال التركيز على رحلة الإمام الشاب الذي تم دفعه إلى دور كبير جدا بالنسبة إليه. وهكذا يعمل الدين كخلفية للقصة. وقال المخرج “أردنا أن نخاطب الإسلام على نطاق إنساني، متحدثين عن الغالبية العظمى الصامتة من المسلمين، الذين يعيشون عقيدتهم يوميا بطريقة شخصية ولطيفة”. ويرسم الفيلم صورة “الجيل الجديد” من المسلمين وكذلك العلاقة المضطربة بين الأم وابنها.
بعد أن تلقى علي دروس الدين الإسلامي وقيمه الأساسية في قرية أعمامه في باماكو، يعود للعيش في ضاحية سين سان دوني، حيث تم لم شمله مع أخواته وأبناء عمومته وأمه. درس القرآن الكريم وتفسيره حتى أصبح شيخا. يجب عليه الآن العثور على مهنة تجلب له الأجر والاعتراف الذي يحتاجه من أمه. فكر في استيراد وتصدير منتجات أمازون، أرادت والدته أن يعمل في مزرعة، وجدت له أخته وظيفة في دار البلدية، ولكن بفضل بلاغته وصوته الشجي وموهبته في الإنشاد، أصبح علي الإمام الجديد للمدينة.
الإمام الشاب يعتبر مثالا لتجديد الخطاب الديني، وذلك من خلال مواعظه الذي يتم نقلها على الشبكات الاجتماعية مع آلاف المشاهدات، فيبدو خطابه جذابا للغاية، وخاصة عندما يقترح إضفاء الطابع الإنساني على الحج المكلف إلى مكة، حلم كل مسلم. يقرر الإمام الشاب الذي يعشقه الجميع ومدفوعا بنجاحاته، مساعدة المصلين وتحقيق حلم كل مسلم: الحج إلى مكة. ولكن وراء خطابه الورع وقلة خبرته يقع ضحية عملية احتيال عديمي الضمير.
كيم شابيرون، الذي كانت نواياه إظهار إسلام منفتح في الإمام الشاب، وهو إسلام متجدد متصل بالشبكات الاجتماعية، إسلام التنوير من خلال قصة علي الذي يرغب في استعادة قلب واحترام الأم المحبطة، وإثبات وجوده اجتماعيا وماليا في مجتمع يظل فيه المال هو المحرك الرئيسي للاحترام الاجتماعي، والشعبية السريعة للإمام “الشاب” عديم الخبرة على شبكات التواصل الاجتماعي ستدفعه إلى تدريب مهني جاد ولكنه مفيد بنفس القدر حول مفهوم المسؤولية الإنسانية.
الإمام الشاب مستوحى من العديد من الحقائق حول عمليات الاحتيال في الحصول على تأشيرات الحج إلى مكة
عقاب المراهق استمر سنوات كانت كافية لأن يقترب الولد من تعاليم دينه بل ويصبح فقيها. وقرأ نصوصا لعلماء الإسلام، وزار المساجد واستلهم من الخطب. يرجع إلى فرنسا وهو في الرابعة والعشرين. ينبهر أهل الحي بحفظه للقرآن وبصوته الجميل في التلاوة. وهو يجيد التفسير وشرح الآيات بلغة فرنسية واضحة. وهكذا يصبح الشاب العائد من مالي إماما لجامع الحي والخطيب الذي يلقي مواعظ تحرّك القلوب. يقول لهم إن الدين في خدمة الحياة وليس العكس. إن المسلم هو من سلم المسلم من لسانه ويده، ولكن هناك من يشعر بأن الإمام الشاب يفتح أعين المصلين، وهو قد يهدد مصالح بعض المنتفعين من غفلة البسطاء.
يقف أحدهم ويصيح: “لا أحب ما تقول… غدا سأصلي في جامع آخر”. يتفق علي مع صديق له على تنظيم رحلات للحج بأسعار أقل وخدمات أفضل. إن حصة مسلمي فرنسا محددة لكن هناك دولا في أوروبا الشرقية لا تستوفي حصصها. وهو ما يستفيد منه الإمام الشاب الذي ينجح في تنظيم رحلة لعدد كبير من أهالي الحي، يعودون وهم في بالغ السعادة والرضى، يستقبلهم الأهل والجيران بالتباريك والزغاريد. لكن رحلة وحيدة تعقبها مأساة.
يتآمر خصوم علي عليه ويسرّبون تأشيرات مزورة لحجاج الدفعة الثانية. تعترضهم شرطة الحدود وتمنعهم من ركوب الطائرة. يتحول الإمام الشاب من قدوة إلى ملعون يخدع الحجاج. على الرغم من أنه ليس مسلما، إلا أن شابيرون نشأ جزئيا في ضواحي مونتفيرميل الباريسية الشرقية، إلى جانب العديد من الأفارقة المسلمين، بما في ذلك كاتب الفيلم لادج لي.
صورة حقيقية
عنوان الفيلم، “الإمام الشاب”، استفزازي بعض الشيء ومثير للتفكير على حد سواء، ويؤكد على حداثة وتكييف الممارسات الدينية في عالم اليوم، لا سيما فيما يتعلق باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتأثير التقنيات الجديدة على الإيمان، وهو ما يستكشفه الفيلم. بالإضافة إلى ذلك، تتميز رحلة علي بسلسلة من الأخطاء النابعة من الكبرياء وقلة الحكمة والخبرة، مما يؤدي إلى جدل يثير التناقض بين أفراد مجتمعه.
مع إخراج شابيرون والتصوير السينمائي المذهل لسيلفستر ديديس، والأداء المتميز من فريق التمثيل الذي يضم أيضا إيساكا ساوادوغو، وموسى سيسي، وأنتا دياو، وريبيكا برو، وفتحي عاشور تاني، ونوردين أساني، يعد فيلم ” الامام الشاب” فيلما مؤثرا، إنه بمثابة شهادة على مرونة وقوة الأفراد والمجتمعات، حتى في مواجهة الشدائد. وأخيرا، يقدم مساهمة مهمة وفي الوقت المناسب في الخطاب حول الإسلام في فرنسا من خلال تصوير دقيق وأصيل للدين، فضلا عن استكشافه لتعقيدات الهوية والإيمان.
عنوان الفيلم جريء في فرنسا عام 2023، حيث يغذي الإسلام مناقشات لا نهاية لها على القنوات الإخبارية بشكل يومي، كما أن الوصول بفيلم بعنوان “الإمام الشاب” لا يمكن أن يكون له كل ما يؤهله لو لم يكن هناك صانع أفلام على رأس القيادة المخرج كيم شابيرون ومشاركة الكتابة مع لادج لي، رمزي سليمان، دومينيك بومارد.
لا يحاول الفيلم أن يكون تأريخا مجتمعيا، بل فيه نوع من الحميمية لأن الإمام الشاب هو أولا وقبل كل شيء قصة علاقة بين الأم والابن ورابطة فضفاضة عندما رأت هذه المرأة من أصل أفريقي ولدها المراهق قد انحرف، فتعيده إلى الجذور لإعادة تربيته وتأهيله.
يظهر لنا المخرج شابيرون الحياة اليومية لهذه الضواحي بدون مخدرات وبدون عنف وهي المشاهد التي اعتدنا على رؤيتها في السينما مع تطبيع ممارسة الإسلام ودون الوقوع في الأصولية.
يقدم عمل شابيرون صورة حقيقية ودقيقة للإسلام في فرنسا، متحديا الصور النمطية السائدة والمفاهيم الخاطئة من خلال تسليط الضوء على تنوع وتعقيد الممارسات الدينية بين ما يقرب من ستة ملايين مسلم في البلاد، وهم أكبر عدد من السكان المسلمين في أوروبا الغربية. من خلال القيام بذلك، يعمل الفيلم كسرد مضاد للتمثيلات أحادية البعد للمسلمين في كثير من الأحيان في وسائل الإعلام والسينما، مع تسليط الضوء أيضا على التمييز والتحيز اللذين يعاني منهما هذا المجتمع.
أحد العناصر الحاسمة في القصة هو فحص قدرة علي على نقل المعنى الروحي من خلال التلاوة اللحنية. من خلال التأكيد على الموسيقى المتأصلة في التعبير الديني، يتجاوز الفيلم حدود تقليد ديني معين ويحقق جاذبية أوسع، مما يسمح للفيلم بإقامة اتصال مع الجماهير ذات المعتقدات المتنوعة أو حتى أولئك الذين لا يلتزمون بأي دين معين.
دور المرأة
في طروحات الإمام الشاب المتجددة عن الإسلام، نشير إلى مشهدين يعبران عن الرؤية الدينية للإمام الشاب. في المشهد الأول، تحول أطروحات الإمام الشاب الإسلام الليبرالي إلى النموذج الجوهري الصارم للمدرسة المفرطة في النقد، ما يقدمه الإمام الشاب من رؤيا حديثة حين يقول: “حيث استغرقت المسيحية 4 قرون لقبول النقد، يطلب من الإسلام إجراء هذا التغير في غضون بضعة عقود فقط. لا يحتاج القرآن إلى الدفاع عنه. يجب أن تتم قراءته وتحليله. فقط النقد ينقذ المتدينين من عبادة الأصنام”.
المشهد الثاني المتعلق بالحجاب حيث تسأل امرأة مسلمة الإمام: “يجب أن أعمل. هل يمكنني رفع الحجاب والتخلي عنه؟” يجيب على بشكل مقلق: “كما تقول والدتي، العمل إلزامي لذا اخلعي حجابكِ”، هل يمكننا أن نتخيل إماما يتحدث هكذا، بمثل هذه الخفة والوضوح؟ جعل هذا الإمام الشاب يرتدي خطابا مختلفا عن خطاب أئمة الأجيال الأكبر سنا وأكثر رسوخا في حقائق القرن الحادي والعشرين وهو فكرة جيدة، عندما نستمع إلى خطابه، نشعر بتأثير طفيف للعلوم الإنسانية المطبقة على الدين، وغرسه بشكل مقتصد لأن المسجد مكان للعبادة، كان من غير المرجح أن يجعله يلقي خطابا إصلاحيا للغاية، لذلك أجد هذا الجانب يعامل بشكل جيد إلى حد ما. المشكلة الحقيقية هي أن خطاب الإمام الشاب منفصلا تماما عن واقع المجتمع الإسلامي وعن الخطب التي ألقيت وتلقى في الجوامع أو المساجد، بالنتيجة يكون خطابه مصطنعا لأنه يأتي من العدم.
في الأساس، لا يسعى الإمام الشاب، الذي يصبح إماما عن طريق الصدفة إلى أي شيء سوى تخليص الحب المفقود لوالدته التي عاقبته بإرساله إلى مالي. بعد العودة إلى فرنسا، كان يشغل وظيفة ككاتب عام في قاعة المدينة، بعد اختياره إماما يجب أن يتخلى عن عمله لتكريس نفسه بالكامل لإمامته، وبعد لقائه مع توأمين مسلمين شابين يعملان في الجمعيات الخيرية وسيثبتان أنهما محتالان في تزوير تأشيرة رحلات للحج، يصبح الإمام الشاب مطاردا ويختبئ عن أعين الناس. وحين تصل إليه والدته، تسانده وتضع يدها على رأسه وهو يبكي، إنها بادرة الحنان الوحيدة، ويطلب منها أن تصدق كلمته بأنه قد تعرض للخديعة.
كيم تشابيرون يسعى إلى إظهار إسلام منفتح في “الإمام الشاب” وهو إسلام متجدد متصل بالشبكات الاجتماعية
الفيلم الذي ينتهي في هذا المشهد، تحولت مرارة الأم إلى دعم ونعمة أخيرة عندما يريد الجميع أن يجعلوا من علي كبش الفداء. يثبت الفيلم أيضا خطر المظاهر الكاذبة، فالخير الذي يؤدي إلى الشر والشر الذي يؤدي إلى الخير يلخص هذه الجدلية المعقدة للواقع. قد تبدو قصة الفيلم بعيدة عن عالم كيم شابيرون، ولكن هناك روابط مع ذلك. بالفعل، نشأ هو ولادج لي في مونفيرميل. ثم وصلت جدة كيم شابيرون إلى مونفيرميل من فيتنام. كانت امرأة قوية جدا، ألهمته في تصوير شخصية الأم (أم علي)، وهي استثنائية.
يقول: “جدتي، في الواقع، بعد حرب الهند الصينية، وصلت إلى فرنسا وهذا الفيلم يشيد بأمهاتنا، جداتنا اللواتي وجدن أنفسهن هكذا في فرنسا بعد عملن في مهن شاقة للغاية”. لم يركز المخرج الفرنسي في فيلمه على مؤمن بسيط، وصعوبة أن يكون واحدا، ولكن على شخصيته في السلطة، أمام شاب تغريه الشهرة. هذا الإمام الشاب ليس في نهاية المطاف أكثر من نسخة ضواحي من راستيناك. يظهر أنه مبتدئ. لم يعد يريد عائلته وحالته الاجتماعية. وهكذا تم تصويره متحولا بعد عودته من أفريقيا، مرتبطا بإسلام التنوير، ويحلم بالارتقاء الاجتماعي وإثبات نجاحاته لنيل رضا والدته.
ما هو جميل أن نرى في “الإمام الشاب” هو أن الفيلم يتحدث عن الدين وممارسته ولكن ليس عن الطريقة التي تتحدث بها وسائل الإعلام عنه. يتناول المخرج موضوع الإسلام في فرنسا من زاوية حميمة ويقدم فيلما مؤثرا عن تعقيد المشاعر بين الابن ووالدته.
يساهم فيلم كيم شابيرون “الإمام الشاب” بشكل كبير في فهم الهوية والإيمان والقبول في سياق الإسلام في فرنسا المعاصرة. كما يستكشف تعقيدات الهويات الدينية والثقافية من خلال دراسة حياة علي (عبدالله سيسوكو). وعلاوة على ذلك، يتعمق الفيلم في تجارب والدته ويسلط الضوء على قوة وصمود النساء اللواتي انتصرن على الشدائد مع الحفاظ على ارتباطهن بتراثهن الثقافي.
يؤكد الفيلم على أهمية دور المرأة في تشكيل القيم والتقاليد والهويات الأسرية والحفاظ عليها عبر الأجيال، حتى في مواجهة التحديات مثل الهجرة والتربية والاندماج مع المجتمعات الجديدة.