الإفلات من مصفوفة النظام العالمي الجديد

المعارضون اليوم يلعبون دورا في مسرحية هزلية عالمية.. الطرف والطرف الآخر فيها ما هما إلا أدوات وجهات اتفقت ضمنيا على تعزيز منظومة كاملة تعيد الغنائم إلى أحضانهما والضحية في المنظومة هو الإنسان المعاصر.
الخميس 2024/04/04
فقاعة رقمية كيف يمكن النجاة منها؟

كيف للإنسان في العصر الحديث أن ينشق عن النظام العالمي الجديد، وهل من الممكن فصل الإنسان عن المصفوفة؟

هل يمكن الإفلات من عجلة النظام سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا، فكريا أو قيميا؟

هل يمكن قطع كافة الحبال التي تربط الإنسان ومصيره ووجوده وماهيته بالنظام الكلي؟

حين تنظر للتاريخ الإنساني قبل 500 عام، أو ألف عام، ستجد أنه كانت هناك حركات قيم فكرية، سياسية، ثورية، اجتماعية واقتصادية انبثقت منها أحزاب متنوعة، وصل لنا كم هائل من الكتب وطرق الحياة المختلفة، أساطير، فرضيات، نظريات، علوم تطبيقية وأخرى باطنية، وسير أشخاص صالحين وطالحين مختلفة، تنوع فكري، ثورات دائمة وتغييرات مستمرة في المجتمعات بشكلها وماهيتها وتفاصيلها، حركات ترجمة، تساؤلات، تشكيك، رغبة في البحث عن الحقيقة، رغبة في التنقل وفي الوصول إلى السلطة وإقامة نقابات، جماعات، أديان وأفكار.

◄ انتخاباتك في بلادك محسوم أمرها، وإن كنت في بلاد هامش الديمقراطية فيها أكبر، فسيتم تخييرك بالخيارات المُتاحة لك

في الوقت الذي كان فيه العالم كبيرا ومنقسما ومتباعدا، يُسمح للمجتمعات بأن تحافظ على خصوصية هويتها وثقافتها وأديانها وأساطيرها وأفكارها بطريقة أفضل، والتداخل ما بينها كانت تنتج عنه أفكار جديدة وإبداع أشمل.

تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني حولت العالم إلى “شارع صغير” يبدو الإنسان فيه مُتشابها ومُملا، وحولت العالم إلى “مول كبير” يخدم حيتان الشركات العالمية ويعزز بقاء النخب السياسية والفنية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية.

قبل هذا كان التداخل الكبير في المجتمعات ثقافيا وفكريا ومحو خصوصية المجتمعات بهويتها وتفاصيل وجهها، ونزع كافة الحريات من الإنسان.. وذوبان روح الفرد بالجماعة “عالميا”.

قبل أن يكون المواطن تحت سيطرة الأمن العالمي والصحة العالمية والمؤسسات الحقوقية العالمية، باسم الحرية والإنسان والتطور، وقبل أن يتم وضعه داخل سجن غير مرئي وربطه ببصمة عينه وأفكاره وصوته وصورته واحتياجاته ورغباته ودوائره في نظام رقمي، وقبل أن تتم استباحة خصوصيته تماما بالتكنولوجيا ووضعه تحت سيطرة النظام العالمي الجديد، كان من الممكن انبثاق حركات فكرية ثورية وانشقاقات سياسية حقيقية، وكان هناك مجال أكبر لإيجاد تنوع فكري وتاريخ بشري ممتع وإيجاد مسارات فكرية جديدة، وأن يخرج أنبياء من العامة.

لكن اليوم، تحت سطوة هذا العالم الذي حوّل كل شيء إلى عالم رقمي، جعل الإنسان بقوته وملبسه وملامحه وأفكاره وأحلامه وتطلعاته خاضعا لنظام كامل، يسهل التخلص من الإنسان كل الإنسان، وتسهل استباحة فكره وتوجهاته وصوته وكلماته ونواياه ومخططاته وخطواته وقراراته، ويمكن التنبؤ حتى بواقع حياته العاطفية والنفسية والعقلية بشكل هزلي يثير الاشمئزاز.

اليوم ضمن منظومة استطاعت سجن الإنسان داخل فقاعة رقمية نتساءل كيف يمكن النجاة منها؟ وإلى أي حد الإنسان حر في قراراته وانشقاقاته وأفكاره ومساراته؟

وهذا يقودنا حتى إلى تساؤلات حول المشهد العام.. هل يمكن للشعوب أن تقرر مصيرها في عام 2024؟ أم أن الإنسان يملك وهم الحرية في رسم حاضره ومستقبله؟ وهل ثورات الشعوب وانشقاقاتها حقيقية أم مخطط لها دائما؟ ولمن تكون الكلمة الأخيرة دائما؟ ولمن الكلمة الأولى في صياغة واقع الإنسان المعاصر؟

◄ حين تنظر للتاريخ الإنساني قبل 500 عام، أو ألف عام، ستجد أنه كانت هناك حركات قيم فكرية، سياسية، ثورية، اجتماعية واقتصادية انبثقت منها أحزاب متنوعة

من يحدد ما يسمى “الترند” في اللباس والكلام في الأفكار والإيمانيات، كيف تُصاغ المجتمعات؟ وهل التغيرات التي تطرأ عليها إيمانيا وثقافيا وقيميا وفكريا وطبيعية، يتم تقريرها من “النخبة”، ومن مافيات لا نعلم عن تفاصيل حياتها ووجوهها شيئا، ومن مجموعة شركات عالمية وحيتان الأموال؟

إن كانت بصمة عينك كفيلة بأن تخبر الأنظمة عن اسمك وماهيتك، وكانت كل المعلومات التي تشاركها بكل سذاجة في الساحة الرقمية جعلتك مكشوفا لكل أنظمة المخابرات العالمية والمحلية والشركات الاقتصادية. وإن كانت هذه الأجهزة المحيطة بك في كل مكان تراقب خطواتك وتحركاتك، وكانت أموالك رهن بنوك الأنظمة العالمية، ورزقك في أيدي منظومة كاملة تجبرك على قبول ما تؤمن به وما لا تؤمن به.. صحتك رهن إشارتها ومستقبل أطفالك بأيديها، والمعلومات والمعرفة التي تُقدم لك مُسيطر عليها وتمت “فلترتها” مُسبقا لأجلك.

انتخاباتك في بلادك محسوم أمرها، وإن كنت في بلاد هامش الديمقراطية فيها أكبر، فسيتم تخييرك بالخيارات المُتاحة لك.

إذا، لمن الكلمة الأولى والأخيرة في واقع الإنسان المعاصر؟ وهل يمكن أن تكون “معارضا حقيقيا”؟ أم أن المعارضين اليوم يلعبون دورا في مسرحية هزلية عالمية.. الطرف والطرف الآخر فيها ما هما إلا أدوات وجهات اتفقت ضمنيا على تعزيز منظومة كاملة تعيد الغنائم إلى أحضانهما والضحية في المنظومة هو الإنسان المعاصر.

هذا العالم الحديث أصبح أشبه بسجن كبير، فقاعة تمنع الهواء النظيف عن المواطن البسيط.

فخ وقع فيه الجميع مرغما، بوعي أو دون وعي، والإفلات منه شبه مستحيل.

9