الإعلام المصري يستعيد جمهوره بحرب غزة

نجح الإعلام المصري في استعادة جزء من الجمهور الذي هجره في السنوات الماضية بفضل تغطية أحداث غزة، والحرص على أن يكون له السبق في نشر معطيات ومعلومات أمنية، وساهم انحياز الإعلام الأجنبي إلى إسرائيل في استعادة الإعلام المصري للبعض من بريقه.
القاهرة - استثمرت وسائل الإعلام المصرية في الحرب الدائرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية لاستعادة قوتها الناعمة، ولتصبح ضمن المنابر التي تستحق المتابعة الجماهيرية لمعرفة المستجدات وفهم موقف القاهرة من الأحداث الجارية.
واستفادت بعض القنوات المصرية، على رأسها “القاهرة الإخبارية”، من تراجع مهنية بعض وسائل الإعلام الأجنبية وانحيازها الواضح إلى جانب إسرائيل دون اكتراث بمعايير الحياد والموضوعية والنزاهة، والتسويق لمساندة القادة الإسرائيليين.
واعتاد المواطن المصري في مثل هذه الأحداث الإقليمية أن يتابع القنوات الإخبارية العربية والأجنبية أمام صمت إعلامه المحلي وتحوله إلى تابع أو ناقل للمعلومات من منابر خارجية، وغالبا ما كان يحدث ذلك بمبادرات ذاتية من القائمين على إدارة المشهد الإعلامي أو عبر توجيهات من دوائر محسوبة على الحكومة لعدم توريط الدولة في أزمة سياسية هي في غني عنها، بحكم تبعية أغلب وسائل الإعلام لجهات رسمية.
وتوصلت دراسة أجراها قسم بحوث الاتصال الجماهيري بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية في القاهرة منذ حوالي عامين إلى أن 40 في المئة من المواطنين يتابعون القنوات العربية والأجنبية في الأحداث الحيوية بسبب عدم الثقة بمحتويات وسائل الإعلام المحلية وغياب العمق والتأثير والتحليل.
ومع اندلاع الحرب في غزة، ظهرت أهمية قناة “القاهرة الإخبارية” كمحطة إقليمية تبث إرسالها من العاصمة القاهرة وتتفاعل بشكل لحظي مع الأزمة، فمن خططوا لها أرادوا أن تكون ذراعا للدولة في مثل هذه الظروف من دون أن يضطر الجمهور المصري إلى متابعة قنوات خارجية.
وتفاعلت محطات مصرية محلية عديدة مع الأحداث وتبنت وجهة النظر المصرية والفلسطينية، ورصدت عن قرب أبعاد الحرب وتداعياتها وأهدافها الخفية، من خلال الاستعانة بمتخصصين عسكريين ومحللين سياسيين.
ولم يكن الإعلام المصري لينجح في استثمار الحرب على غزة والتقارب مع الجمهور دون دعم من دوائر بالسلطة، بحيث تكون القنوات المحلية لديها ميزة مضافة تُمكّنها من التفوّق على منافسيها، وظهر ذلك في نقل معلومات أمنية عبر شاشات مصرية.
وارتكبت الحكومة المصرية أخطاء سابقة عندما عوّلت على قنوات ووكالات أنباء أجنبية لتوصيل رسائلها للخارج وإظهار موقفها بشأن بعض القضايا الحيوية، لكنها قررت أخيرا الاعتماد على أذرعها الإعلامية لتوصيل رسائلها مباشرة.
أصبحت قناة “القاهرة الإخبارية” شبه ناطقة بلسان السلطة المصرية، حيث يتم من خلال شاشتها نقل وجهة نظر الدولة، وتوجيه تحذيرات لإسرائيل وقوى غربية داعمة لها، أو بالرد بشكل صارم على ادعاءات تل أبيب ووسائل إعلامها.
وسهّلت هذه المعطيات مهمة المحطة المصرية في أن تحظى بمتابعة جماهيرية واسعة، بعد أن تعاملت مع الحرب على غزة بطريقة محترفة ونشرت شبكة مراسلين في الأراضي الفلسطينية، ونقلت التطورات على الهواء مباشرة.
وأصبحت القناة مصدرا أساسيا لباقي المحطات العربية والأجنبية في نقل وجهة النظر المصرية، وبدأت تجاري الأحداث بشكل سريع بحكم أن موقف القاهرة بات متداخلا مع روافد الحرب الجارية، كوسيط بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ودورها في توصيل المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، فضلا عن حديث متزايد حول وجود مخطط لتهجير سكان غزة إلى سيناء المصرية، وما يستدعيه ذلك من مواقف حاسمة.
وأدرك المسؤولون عن إدارة المشهد الإعلامي المصري أن المُشاهد المحلي لم يعد رهينا للرسالة الجامدة التي تصله، ويعجز عن الوصول إلى منابر بديلة تتناسب مع أفكاره وتوجهاته، ما اضطرهم إلى عدم الاستمرار على الوتيرة العقيمة السابقة، من تجاهل ما يحدث في الإقليم.
وتعكس استعادة الإعلام المصري جزءا من تأثيره بالتزامن مع الحرب على غزة، إلى أيّ درجة أن استقطاب الجمهور وقت الأزمات في حاجة إلى تدفق المعلومات طوال الوقت، مع احتراف في المعالجات وإطلاع المشاهدين على المستجدات بشكل لحظي، مع التميز المهني في التغطية والابتعاد عن النمطية والتكرار والجمود.
ويقول خبراء إعلام إن القنوات المؤثرة ليست كلها تتمتع بحرية مطلقة، وأغلبها موجه لصالح أهداف ومصالح تتفق مع الجهات المالكة لها، سواء أكانت حكومات أم أفرادا، لكن العبرة في كيفية توظيف البيئة المحيطة والاستفادة من كل ميزة تتمتع بها المحطة بالاقتراب من دوائر صناعة القرار ومحاولة إدخال نفسها كوسيط يحتكر توصيل الرسائل والمعلومات الهامة في توقيت حساس.
وأكد حسن علي أستاذ الإذاعة والتلفزيون بجامعة السويس، شمال شرق القاهرة أن الإعلام المصري نجح في استثمار الحرب على غزة للتقرب من الجمهور، لكن العبرة في الاستدامة على نفس النهج، وعدم ربط التحول بأزمة مؤقتة، وهذه فرصة ثمينة لتحسين الأداء واستعادة الإعلام لشعبيته، وإذا لم تكن هناك استمرارية مهنية، فإنه سوف يعود إلى مربع السابق المليء بالبطء وتجاهل تدفق المعلومات.
وأوضح علي لـ”العرب”، وهو أيضا رئيس جمعية حماية حقوق المشاهدين، أن الإعلام المصري لا يزال يعاني من إخفاق في القضايا المحلية، ولا بد من أن يكون النجاح على المستويين الداخلي والخارجي، وهذا يتطلب جهدا مضاعفا، فلا يمكن التعويل على التميز في ملف بعينه للاقتناع بأن الإعلام وصل إلى المرحلة المهنية المطلوبة، وليس منطقيا أن يكون الإعلام محترفا في العديد من القضايا خارجيا ومذعورا محليا.
وظلت مشكلة الكثير من وسائل الإعلام المصرية أنها عانت من اختزال نفسها في مناقشة الحدث من زاوية الخبر، مع أن هذا متاح لكل منصات التواصل، لكنها قررت الذهاب إلى أبعد من ذلك على مستوى مواكبة الحدث وطريقة عرضه والاستعانة بالتحليل والتعمق فيه وتكوين شبكات محترفة من المراسلين واستثمار القرب من دوائر صناعة القرار بالحصول على معلومات يصعب على منابر أخرى الوصول إليها.
وأوضح محمد سعد عبدالحفيظ عضو مجلس نقابة الصحافيين المصريين في تصريحات لـ”العرب” أن الإعلام المصري عانى من عدم الحضور للقيام بالواجب المهني في ملفات حيوية، ونجاحه في التعامل مع الحرب على غزة مرتبط بانحياز السلطة لدعم القضية الفلسطينية.
والواقع أن المسؤولين داخل المنظومة الإعلامية أدركوا الفارق الشاسع بين تغطية أزمة محلية يمكن إخفاء بعض تفاصيلها، وأخرى لها أبعاد خارجية يصعب التعامل معها كقضية هامشية وتجاهلها أمام عصر السماوات المفتوحة ووجود منافسين أقوياء على الساحة، ومؤامرات تحاك ضد الدولة المصرية، ما يفرض الحاجة إلى أذرع إعلامية قوية، ولو انحازت إلى موقف بعينه، فالحياد وقت تهديد الأمن القومي مثالية زائدة.
ويظل الدرس الأهم أنه أمام تفاعل الإعلام التقليدي على غير المعتاد مع تطورات الحرب على غزة تراجع مستوى تأثير منصات التواصل التي اعتادت تقديم نفسها في مثل هذه المواقف على أنها الإعلام البديل من خلال نقل معلومات وتحليلات لهواة، بناء على توقعات أو مطالعة للإعلام الغربي أو حتى التسريبات غير الدقيقة، ما يعني أن الإعلام التقليدي قادر بسهولة على هزيمة الشبكات الاجتماعية بقدر من الحرية.