الإعلام المصري يتوحد لإقناع الجمهور بالصبر

يوحي التركيز الإعلامي في مصر حاليا على بعض المشكلات الداخلية مع إقناع الجمهور بالصبر والتوحد خلف القيادة السياسية بتوجه رسمي لدفع الناس إلى تجاهل أزماتهم والتركيز على ما تعانيه الدولة من تحديات أمنية وسياسية مرتبطة بتصاعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
القاهرة - تتعمد الكثير من وسائل الإعلام المصرية توصيل رسائل قاتمة عن الأوضاع العامة خلال الفترة المقبلة، وعلى المواطنين تجاوز مشكلاتهم المعيشية، لأن الدولة تركز على الأزمة الأكبر التي ترتبط بضرورة تماسك الجبهة الداخلية.
وتندر الرسائل التي تدعو إلى التفاؤل من جانب الإعلام حاليا، من منطلق أن ذلك يكرس مصداقية مقدمي البرامج والصحف، حيث يقولون إنهم يرصدون الواقع على الأرض بدقة، في محاولة لعدم تبييض الصورة من دون ضغط على الحكومة.
ويناقش الإعلام أزمة مثل انقطاع الكهرباء المتكرر، ويتم تبرير ذلك بأن الظروف والتحديات الإقليمية هي التي فرضت على مصر ذلك، وعلى الناس مضاعفة صبرهم على الحكومة والتعايش مع الأزمة بصدر رحب، وهو نفس الأمر بالنسبة إلى الزيادات الكبيرة في أسعار سلع مختلفة.
وهناك منابر تركز على ما تعانيه دول محيطة لم يصبر أهلها على الأزمات الداخلية، ومراعاة الصعوبات الأمنية والاقتصادية، ووصل بهم الحال إلى السقوط، وبات مطلوبا من المصريين الوعي بالمخاطر التي تحاك ضد بلدهم دون تذمر.
واعتاد الإعلام المصري في مثل هذه الظروف عدم مناقشة المشكلة في محاولة لتغييبها أو نفي وجودها أو التطرق إليها وتبني مطالب الشارع بحتمية وجود تدخل حكومي جذري للحل، لكن الجديد أن يتم تناول أي مشكلة مع التماس العذر للمؤسسات الرسمية بأن التحديات ضخمة.
وتتحفظ شريحة معتبرة من المصريين على تحول الإعلام في بلادهم من مجرد ناقل للحقيقة وباحث عن حلول لمشكلاتهم إلى منبر لدفع الناس إلى التأقلم مع الأزمات، ويعطيهم دروسا في الوطنية والانتماء دون اكتراث بأن هناك مشكلات معقدة لا علاقة لها بالتحديات الإقليمية ومطلوب إرادة سياسية لحلها فورا.
وما يثير امتعاض الكثير من الجمهور أن هناك تغطيات إعلامية تعقد مقارنات بين ما يجري في مصر وخارجها بلا مراعاة لأوجه الاختلاف السياسي والضوابط الاقتصادية في محاولة لإقناع الناس بأن الاصطفاف خلف الحكومة فرض عين، بدليل أن مواطني بعض الدول يعيشون أزمات لكن أولويتهم الاستقرار.
وتشير هذه النوعية من الرسائل الإعلامية المصرية إلى أن الهدف من تغطية وتناول أي مشكلة محلية تلامس صميم احتياجات الجمهور يتجاوز حدود الدور الإعلامي، ويصل إلى حد إعطاء دروس للجمهور، والتلميح بأن الكل في الهم سواء، محليا أو دوليا، ولا داعي لإنهاك الحكومة في ذروة التحديات الأمنية.
وتتأثر مصر اقتصاديا بالأزمات الإقليمية والدولية كغيرها من بعض دول العالم، لكن معضلة الإعلام أنه تمادى في التماس الأعذار للحكومة سواء أكانت المشكلة المحلية ولها توابع خارجية أم من صنيعة الإخفاق والفشل في إيجاد حلول ناجزة وغياب الخطط الواقعية للحل، وهي إشكالية تعاني منها غالبية القطاعات في مصر.
شريحة معتبرة من المصريين تتحفظ على تحول الإعلام في بلادهم من مجرد ناقل للحقيقة وباحث عن حلول لمشكلاتهم إلى منبر لدفع الناس إلى التأقلم مع الأزمات
ويجازف الإعلام المصري عندما يصطف خلف الحكومة في المشكلات التي يمكن حلها بسهولة ولا علاقة لها بتداعيات خارجية، لأن ذلك يضرب مصداقيته، في حين أنه نجح بشكل كبير في التقارب مع الجمهور على وقع التغطية المهنية المقبولة للحرب على غزة ورفض مخطط التوطين في سيناء، ما أعاد إليه جزءا من جماهيريته.
ويقول خبراء إن إصرار بعض المنابر الإعلامية على البحث عن ثغرات لتبرير الاصطفاف خلف الحكومة أصبح مثيرا للاستفزاز، مع أن المنابر لو تعاملت بواقعية ونقلت وجهتي النظر وضغطت لحل مشكلات يستوجب حلها قبل تفاقمها بعيدا عن الاعتبارات السياسية، لن يؤثر ذلك على الاستقرار.
وأكد حسن علي أستاذ الإعلام بجامعة قناة السويس ورئيس جمعية حماية المشاهد لـ”العرب” أن الإعلام المصري أخفق محليا ونجح خارجيا منذ بدء الحرب على غزة، وهذا لا يرضي طموحات الجمهور لأنه يبحث عن إعلام متوازن، لا يكون صوتا رسميا للحكومة على حساب أوجاع الشارع.
ولفت إلى أن التماس الأعذار الإعلامية لن يصب في صالح الدولة، حيث يزيد من استفزاز الناس، فهناك شريحة قد يكفيها تناول أزماتها من خلال وسيط إعلامي لنقل نبضها، لكن تناول المشكلة بتبني الدفاع عن الطرف المتهم سقطة مهنية.
الإعلام يناقش أزمة مثل انقطاع الكهرباء المتكرر، ويتم تبرير ذلك بأن الظروف والتحديات الإقليمية هي التي فرضت على مصر ذلك، وعلى الناس مضاعفة صبرهم على الحكومة
وأوضح علي أن جزءا أصيلا من مشكلات الإعلام في مصر يكمن في أنه يعتمد على التلقين ويعطي دروسا للجمهور ولا يضع حلولا للمشكلات، ومطلوب من أي منبر عدم المبالغة، فلا يجمل الصورة أو ينحاز لرؤية الحكومة فقط، حفاظا على صورته، والمفترض أن يقدم المشكلة بحلولها عبر رؤى تحليلية ناقدة ومفيدة للدولة.
وترفض شريحة من الجمهور المصري أن تتوقف الحياة في البلد لمجرد أن هناك حربا دائرة على الحدود، لأن الحكومة تملك مؤسسات منوطا بها حل مشاكل الناس، ويجب على الإعلام عدم الوقوف إلى جانبها في الخطأ والتقصير، والحق والباطل، لأن ذلك يقود إلى المزيد من الإخفاقات بشكل يصعب علاجه مستقبلا.
وتأتي الأزمة الحقيقية من أن الإعلام المصري عندما تغيب رقابته على الحكومة ويصطف خلفها لإقناع الناس بالتحديات والصبر، لا تفكر في البحث عن حلول لأي مشكلة، عكس الأزمات التي تتحول إلى قضايا رأي عام تتعامل معها كحدث طارئ وتحشد كل قواها لوضع حد لها على نحو عاجل.
وفي أزمة وصول سعر الدولار في السوق السوداء إلى مستويات قياسية وانهيار الجنيه المصري، لم تحرّك الحكومة ساكنا لحلها، في حين تبرر بعض المنابر الإعلامية ذلك بتصاعد التحديات الاقتصادية على وقع الصراعات الإقليمية، وهو تفسير قد يرفع العبء عن كاهل الحكومة في مسألة البحث عن حل ناجز.
ويقلل متابعون لحال الإعلام المصري من جدوى تركيز الخطاب الراهن على التداعيات المرتبطة بالحرب على غزة أو غيرها من الصراعات لامتصاص غصب الجمهور في الداخل، لأن المواطنين ليسوا بالسذاجة التي تدفعهم إلى تصديق رسائل مصطنعة لتغيير رؤيتهم في الحكومة ووسائل الإعلام التي تدور في فلكها.
ويؤثر الخطاب المنحاز إلى الحكومة على الدوام بشكل سلبي على نظرة الجمهور للتغطيات الإعلامية لأزمات وأوجاع الناس، لأن المهنية تقتضي عدم تبني رؤية مسبقة لجهة ربما تفشل في إيجاد الحلول المناسبة.
وحال استمر الإعلام المصري في السير على نفس الوتيرة، ففرص ترميم العلاقة مع الجمهور سوف تصبح بالغة الصعوبة، وذلك في ذروة حاجة الدولة إلى منابر مهنية تحظى بمصداقية بحكم أن البلاد مقبلة على تحديات تستدعي أن يكون الخطاب الإعلامي متوازنا ومؤثرا ومقنعا وذا مصداقية لدى الناس.