الإعلام المصري جريء رياضيا "مطبل" سياسيا

يكتشف المتابع للخارطة البرامجية في القنوات المصرية وسياسة العديد من الصحف الورقية والإلكترونية بسهولة حالة الازدواجية التي يتعامل بها الإعلام مع القضايا الهامة، فهو يتجاوز حدود النقد إذا ارتبط الأمر بقضية بعيدة عن السياسة، ويلتزم الصمت عند التطرق إلى أيّ إخفاق حكومي قامت به وزارة أو جهة رسمية تطبيقا لمبدأ الاصطفاف “بالحق أو الباطل” خلف الدولة في مواجهة التحديات.
القاهرة - أصبح الإعلام الرياضي في مصر أقرب إلى منابر معارضة تتحدث بنبرة شرسة ضد إخفاق مسؤولين كبار عن الملف برمته، وعلى رأسهم أعضاء اتحاد كرة القدم منذ الهزيمة التي تلقاها المنتخب على يد نظيره الإثيوبي في التصفيات المؤهلة لبطولة الأمم الأفريقية، بهدفين دون رد، وهو ما اعتبره الإعلام هزيمة سياسية بامتياز.
وارتبط التصعيد الإعلامي ضد المسؤولين عن ملف الرياضة بالإشارة إلى أن سقوط المنتخب الوطني لكرة القدم أمام نظيره الإثيوبي يستحق الاستقالة من المنصب والمساءلة لكون أديس أبابا في خصومة سياسية مع القاهرة جراء أزمة سد النهضة، وكان يجب على المنتخب في هذه المباراة أن يعبّر عن قوة وشموخ وصمود الدولة.
بينما لا يزال الحديث عن سد النهضة محل تجاهل شبه تام من جانب أغلبية وسائل الإعلام في مصر، على الرغم من أن الملف سياسي ويتعلق بالأمن المائي للبلاد، الأمر الذي يعكس حالة الازدواجية التي تتعامل بها القنوات والصحف مع القضايا الحيوية، وكأن أي منبر يرغب في ممارسة دوره بحرية يبتعد عن كل ما هو سياسي.

حسن عماد مكاوي: جرأة الإعلام الرياضي لا تعوض تراجع المنابر السياسية
لم يعد هناك برنامج سياسي أو اجتماعي لا يتحدث عن الأزمات التي أصبحت تعصف بملف الكرة في مصر ويعدد الأخطاء والنكسات بطريقة حادة من العبارات.
واللافت أنه يتم توجيه اتهامات بالفساد إلى مسؤولين وتنطلق دعوات من إعلاميين إلى الجهات الرقابية بالكشف عن المتورطين في مخالفات مالية وإدارية، وهي نبرة لم يعتد عليها الجمهور منذ فترة طويلة.
في حين لا تزال السياسة غائبة عن المنابر الإعلامية، مع أن هذه الفترة تشهد مناقشات ومداولات بين أحزاب وقوى حزبية مؤيدة ومعارضة للحكومة حول أولويات الحوار الوطني الذي سبق ودعا إليه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بمشاركة مختلف التيارات والأحزاب، أي أن هناك حراكا سياسيا نسبيا لا يظهر بوضوح في الإعلام.
ويرى مراقبون أن فشل الإعلام المصري في استثمار هذا الحراك يوحي بأن منابره غير قادرة على إحياء الأمل لتتحول إلى أدوات فاعلة ومؤثرة لها كلمة ونفوذ، فلا هي تناقش آليات الحوار المرتقب وأهدافه وبنوده ومطالب القوى المختلفة، ولا تتحدث عنه إلا وفق ما يتاح للصحف والقنوات من بيانات رسمية توحي بوجود رغبة تحض على اقتصار دور الإعلام في الشق غير السياسي.
ويشير المشهد الإعلامي إلى تناقض فاضح، خاصة إذا ارتبط الأمر بقضية رياضية، حيث تناقشها وسائل الإعلام من كل الزوايا وتستعين بمؤيدين ومعارضين وتوجه سهام النقد بلا هوادة إلى المتهمين بالتقصير، ونجحت في التنفيس عن الجمهور الناقم على الأوضاع الرياضية، ما حولها إلى ملاذ للخلاص من الفاشلين، في عملية إسقاط غير مباشرة، لأن من عينوا المسؤولين يتحملون النتيجة أيضا.
طرح التناقض بين ما هو سياسي وما هو رياضي جملة من التساؤلات حول هوية المسؤول عن وصول الإعلام المصري لتلك الحالة، هل الوجوه الإعلامية التي تتصدر المشهد منذ سنوات دون تغيير ولها علاقات قوية بدوائر حكومية، أم الجهة التي تمتلك وتدير المنابر الإعلامية مسؤولة عن إخفاء السياسة وإبراز الترفيه؟.
يعتقد البعض من خبراء الإعلام أن الارتباك وتغييب السياسة مقابل تصدير قضايا هامشية عملية مشتركة بين الهيئات المسؤولة عن تنظيم الإعلام وبين الجهات التي تمتلك المؤسسات، وبين مقدمي البرامج أنفسهم، فكل طرف لا يريد وضع نفسه في مشكلة مع النظام الحاكم، لذلك يخشى تسييس الخطاب الإعلامي.
ويقول هؤلاء إنه من المستبعد وجود توجيهات رسمية لوسائل الإعلام بعدم التطرق إلى الأوضاع السياسية، فمن مصلحتها إبراز الحراك في ملف الحوار الوطني وتلميع صورة الحكومة، وتقديمها للناس بأنها تتقبل كل الآراء بدليل إجراء حوارات مع قوى معارضة لها مطالب مرتبطة بالحريات والإفراج عن سجناء الرأي.
هناك من يرى القضية أبعد من ذلك، حيث يشير هؤلاء إلى أن حقيقة الأزمة مرتبطة بغياب الاحتراف في الإعلام بعدما تحولت معظم البرامج إلى جلسات فضفضة من جانب المذيعين، يتحدثون في الملفات التي يعتقدون أنها الأهم للجمهور، مثل الرياضة والحوادث الشاذة، والقضايا محل اهتمام وسائل التواصل الاجتماعي من دون تحديد الأولويات أو الاستعانة بالمتخصصين في كل المجالات للحديث
بأريحية.
وقال حسن عماد مكاوي أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة أن جرأة الإعلام الرياضي لا تعوض تراجع المنابر السياسية، ولا ترمم صورة المشهد المرتبك، لأن الناس تبحث عن نفسها في وسائل الإعلام ولا تجد قضاياها الضرورية أو من يتحدث بلسانها، مع أن النقد البناء لا يمكن أن يزعج الحكومة، لأنه يفيد كل الأطراف، حيث يمارس الإعلام دورا مطلوبا لدعم جهود الدولة في تحقيق الرضا المجتمعي.
حقيقة الأزمة مرتبطة بغياب الاحتراف في الإعلام بعدما تحولت البرامج إلى جلسات فضفضة من جانب مقدمي البرامج
وأشار في تصريحات لـ”العرب” إلى أن الإيحاء بارتفاع سقف الحرية من خلال هجمة البرامج على مسؤولين بعينهم لا علاقة مباشرة لهم بملفات من صميم احتياجات الناس يتسبب في حالة تغييب للجمهور، وهذا ليس مطلوبا، فالإعلام يفقد هنا أحد أهم مزاياه ويتخلى عن دوره التوعوي، ولا ينقل الصورة الحقيقة للشارع.
واستنكر مكاوي تحول برامج عامة إلى ترفيهية بمناقشتها قضايا لا تبدو من صميم دورها، كأن يتحول السياسي إلى رياضي لمجاراة الموجة وجذب مشاهدات لا أكثر.
وتكمن المعضلة في أن بعض مقدمي البرامج يتحدثون وفق ميولهم وقناعاتهم بلا سياسة تحريرية تحكم طبيعة البرنامج، وقد يتعمد الكثير منهم الابتعاد عن القضايا الشائكة، وعلى رأسها المرتبطة بالشق السياسي لتجنب الدخول في مشكلات مع الحكومة أو الجهات المنظمة للمشهد الإعلامي، اعتقادا بأن النبش في السياسة يجلب لهم منغصات.
وقد يكون التنوع في مناقشة القضايا المختلفة مطلوبا في البرامج العامة لاستمالة أكبر قدر ممكن من الجمهور، لكن تظل هناك إشكالية مرتبطة بغياب الأولويات عند الكثير من المنابر وتعمدها تجاهل موضوعات بعينها ينتظرها الناس.
وإذا نقلت عن الحكومة وجهة نظرها فإنها تجاهد لإخفاء وجهة النظر المعارضة، حتى تراجعت المصداقية وزادت شكوك الجمهور في توجهات الإعلام.
وقال الرئيس السيسي للإعلاميين على هامش افتتاح مشروعات تنموية قبل أيام “أريد منكم نقل الحقيقة ليعيش الناس الواقع بحق”، وهي الرسالة التي لا تجد آذانا صاغية من الإعلام حتى الآن، ما يعني أنهم يتجاهلون كلامه أو أن ثمة جهة أخرى تنهرهم.