الإخفاق في تجاوز الأذى النفسي عند الصغر يؤسس لزواج فاشل

يؤكد مستشارو العلاقات الأسرية أن انتشار التربية القائمة على العنف انعكاس لتدهور الوعي الأسري في أي مجتمع، مشيرين إلى أن التربية العنيفة للأبناء تهدد مستقبلهم الأسري بعد تحولهم إلى آباء، ذلك أن الإخفاق في تجاوز الأذى النفسي عند الصغر يؤسس لزواج فاشل في الكبر. ويرون أن الحل يكمن في وجود خطاب مقنع للآباء بأن الأبوة لا تعني فرض الوصاية على الأولاد.
القاهرة - “كان والدي يقوّم سلوكي دائما بالضرب المبرح، حتى عانيت من عقد نفسية لم أستطع التخلص منها، وبلغ الأمر حد رفضي الإنجاب خشية أن أصبح مثل والدي”.. هكذا أبلغ أحد الأزواج مركز الإرشاد الأسري التابع لدار الإفتاء المصرية عندما حاول المتخصصون تقريب المسافات بين زوجين، وبعدها أطلقت الدار تحذيرا خطيرا من توريث العنف للأبناء عندما يصبحون آباء.
وأثارت التحذيرات صدمة للبعض، بعدما أعلنت أن التربية العنيفة للأبناء تهدد مستقبلهم الأسري، فإما أن يصبحوا آباء يدمنون القسوة تجاه أولادهم أو يصابون بعقد نفسية يصعب عليهم التخلص منها، بالاستقرار على عدم الإنجاب لأنهم لن يتمكنوا من تربيتهم بلا عنف، وفي الحالتين سوف يصبحون أزواجا فاشلين في المستقبل.
واستعانت دار الإفتاء بوقائع حية عايشها رجالها بحكم اقترابهم من الخلافات الزوجية، عبر مركز الإرشاد الأسري، للتخويف من تبعات التربية القائمة على العنف والاعتداء الجسدي على الأبناء، ووصل الأمر حد فقدان بعض الأبناء القدرة على النطق والإصابة بانتكاسات نفسية في حاجة إلى علاج مكثف لمجرد بحث آبائهم عن المثالية.
وتكشف تلك الوقائع عن المخاطر المسكوت عنها داخل بعض الأسر والظروف القاسية التي يعيشها الأبناء ممن تربوا على العنف ويعانون من صدمات نفسية تلازمهم طيلة حياتهم، ولا يستطيعون نسيان ما حدث معهم ، ومع أنهم أصبحوا أزاوجا، لكنهم لا يثقون في أنفسهم بفعل ذكرياتهم السيئة عندما تعرضوا للضرب.
ويفتقد الخطاب الاجتماعي في بعض المجتمعات العربية التي تنتشر فيها التربية الأسرية الخشنة للتوعية القائمة على تقديم وقائع حية إلى الناس، وغالبا ما يتم الاكتفاء بالتحذير من تبعات العنف تجاه الأبناء دون تسليط الضوء على حالات بعينها لدفع أرباب الأسر للتعاطي بجدية مع التحذيرات للاقتناع بأن العنف يُورّث.
تمسك الآباء بتطبيق طريقة التربية التي خضعوا لها في الصغر على أبنائهم يعمق الفجوة داخل الأسرة الواحدة
وتتحمل بعض الجهات التثقيفية والتعليمية جزءا كبيرا من المسؤولية، حيث تندر الأعمال الفنية ذات الصبغة الاجتماعية التي تركّز على مزايا التربية الحسنة، وتخشى كل جهة مسؤولة عن نشر الوعي في المجتمع أن تتطرق إلى خطورة عقوق الآباء تجاه أولادهم وأشكاله وأساليبه، لعدم اتهامها بتحريض الأبناء على أسرهم.
وأمام استمرار عدم تسليط الضوء على الأزمة باتت هناك خطورة بالغة على الكيان العائلي مع تمادي الآباء في فرض الوصاية على الأبناء وتبرير العنف بالتربية المثالية دون اكتراث بالتبعات الخطيرة في المستقبل، وتعكير صفو العلاقة بين الزوجين لمجرد أن الرجل في تلك الشراكة لم يستطع بعد تجاوز الانتكاسة التي طالته في الصغر.
ولأن العنف الأسري يرجع إلى نقص الوعي، يداوم الكثير من الآباء على نفس الأسلوب عن جهل بالتبعات المستقبلية، حيث يعتقدون أن التربية الخشنة وسيلة ناجعة لتقويم سلوك الطفل وفق ما تستسيغه الأسرة والمجتمع، ولا يدركون أن تلك الذكريات السيئة تعيش مع أصحابها، وقد تكون سببا في عقوق الأبناء لآبائهم.
ويرى متخصصون في العلاقات الاجتماعية أن التوعية الدينية ضد مخاطر التربية العنيفة تزداد قيمتها في المجتمعات التي ينشأ فيها الآباء على قدسية توقير الأبناء لهم، بدافع ديني وأخلاقي، انطلاقا من أن بعض النصوص القرآنية والنبوية صنفت رضا الوالدين بأنه يأتي في المرتبة الثانية بعد عبادة الرب، لذلك اختزلوا المعاملة الحسنة من الأبناء في الطاعة العمياء.
ويترتب على تلك المفاهيم المغلوطة أن الكثير من أرباب الأسر يبيحون لأنفسهم التربية القائمة على الأذى اللفظي والجسدي، ولا يجدون في ذلك عيبا بذريعة أن أولادهم مكلفون بالدين والعرف بالاستجابة لهم تحت أيّ ظرف وتقبل تصرفاتهم وأسلوب تربيتهم، وهي الإشكالية التي لم تصححها المؤسسات الدينية في العديد من المجتمعات.
ويغيب عن شريحة معتبرة من الأسر أن الأب المثالي ليس الذي يتمسك ببلوغ ابنه مرحلة المثالية في السلوكيات والتصرفات بطريقة العنف والترهيب لمنعه من ارتكاب الأخطاء وإلا تعرض للأذى، بل إنه الأب الذي يسعى ليكون قدوة حسنة لأبنائه، باعتبار أنهم يكتسبون منه كل شيء، ويتعاملون معه كمثل أعلى في شؤون حياتهم.
وقال علاء الغندور استشاري العلاقات الأسرية بالقاهرة إن انتشار التربية القائمة على العنف انعكاس لتدهور الوعي الأسري في أيّ مجتمع، ومشكلة الخطاب التوعوي أنه غالبا ما يكون سطحيا ولا يُعالج أصل المشكلة، فهناك ميراث ديني خاطئ حول علاقة الآباء بالأبناء، وميراث آخر ثقافي مرتبط بقيمة الترهيب كمدخل لتقويم السلوك.
وأضاف لـ”العرب” أن جزءا من علاج الأزمة يكمن في وجود خطاب مقنع للآباء بأن الأبوة لا تمنحهم الصلاحية الكاملة في فرض الوصاية على أولادهم، بحجة أنهم السبب في مجيئهم إلى الدنيا، لأن ذلك يكرس التعامل مع الأبناء كملكية خاصة للآباء، ما يتطلب خطابا توعويا شاملا، لأن العنف أصبح يورّث وينتج أزواجا فاشلين.
وتزداد قيمة الوعي بمخاطر التربية القائمة على الوصاية الكاملة بأن الأجيال الجديدة أصبحت منفتحة ومتحررة ثقافيا وفكريا أكثر من أيّ وقت مضى، ما قد يدفعهم إلى التمرد على أسرهم أو العقوق تجاه آبائهم كرد فعل طبيعي ضد عقوق آبائهم لهم، بما ينتج عنه انفلات قوام العائلة طالما أن كل طرف له مبرراته التي يراها منطقية.
ولفت الغندور إلى أن كل أب من حقه أن يرى ابنه مثاليا أمام تزايد الانفلات الأخلاقي والسلوكي في المجتمع، لكن يغيب عن الكثير من أرباب الأسر أن مثالية الابن تُصنع في أجواء عائلية خالية من العنف والترهيب والندية بين الزوجين وإعلاء قيمة التشارك واحترام الآخر وتعامل الآباء مع أولادهم بصداقة لا بفكرة الوصاية والسلطوية.
وتأتي المعضلة من أن البعض من الآباء يقسون على أولادهم اعتقادا منهم بأن التربية يجب أن تكون كذلك، فالتسامح والتهاون قد يقودان إلى الانفلات، ما يشرعن فرضية العنف دون إدراك لكونه يقود أحيانا لكراهية الابن لأبيه وهو لا يتعمد ذلك، ويتحول إلى فاقد للأمان ومضطرب وكاره لكيان الأسرة، ولو أصبح زوجا ورب أسرة.
وذهبت بعض الدراسات الاجتماعية والنفسية إلى إن احتواء الآباء للأبناء في أجواء عاطفية يؤسس لعلاقة قوية قائمة على الصداقة والمصارحة وعدم ارتكاب الأخطاء، ما يدعم تنشئة الصغار وهم يتحملون مسؤولية تصرفاتهم، ليكونوا متحكمين في مدى رضاء الآباء عنهم أو سخطهم عليهم.
ويقود تمسك بعض الآباء بتطبيق طريقة التربية التي خضعوا لها في الصغر على أبنائهم إلى تعميق الفجوة داخل الأسرة الواحدة، فالأبناء من جيل وآباؤهم من جيل آخر، ما يولد العداء والتمرد أو تنشئة الصغار على اختلالات نفسية في غياب المراعاة لاختلاف الظروف والبيئة والتطورات المجتمعية المتسارعة.
وإذا كانت محاولة تغيير نمط فكر هذه الفئة من أرباب الأسر وثقافتهم تبدو صعبة، لكن ذلك لا يعني استسلام المؤسسات التوعوية للأمر الواقع بلا تدخل عبر خطاب تثقيفي وفني وديني وتعليمي يعيد الأمور إلى صوابها، ويؤسس لنقاش أسري حول نمط التربية الصحية بعيدا عن توريث التربية الخشنة.