الألمانية أولّا فون برندنبروغ وشمولية المشروع

الفنانة تستعمل العديد من الوسائط والتقنيات في منجزها الفني من بينها الأفلام والمسرح والجداريات والأقمشة.
الاثنين 2020/12/28
جمع لكل الفنون في عمل واحد

للألمانية أولاّ فون برندنبروغ تجربة متميزة تستوحيها من الأدب والمسرح والتحليل النفسي، ومن دراستها للأيقنة في القرن التاسع عشر وتاريخ التكنولوجيا والثورة الصناعية، فانطبع كل ذلك في أعمالها التي تتراوح بين التنصيب والجداريات والأشرطة.

درست الفنانة الألمانية أُولّا فون برندنبروغ السينوغرافيا في جامعة كارلسروه للتصميم، والفنون التشكيلية بكلية الفنون الجميلة بهمبورغ، ولكنها عرفت في البداية كمصممة مناظر وديكورات، قبل أن تدخل عالم الفنون التشكيلية، غير أن تكوينها الأصلي ترك بصمته في عملها التشكيلي، فالمسرح والإخراج وتصميم المناظر والديكور والخشبة حاضرة بكثافة في مختلف أعمالها الفنية.

وهي، إلى ذلك، تؤلّف النصوص والأغاني وترسم الديكور والأزياء وتوجه الممثلين، لأن لها مجموعة ترافقها حيثما حلّت، وتساعدها في أعمالها الفنية والسينمائية، من جهة الأداء والتنظيم، ومن جهة تجسيد تنصيباتها حيث يحتل أفرادها مواقع محددة لإنجاز ما يقع التخطيط له.

وتستعمل الفنانة الألمانية عدة وسائط ووسائل وتقنيات، من بينها الأفلام والمسرح والجداريات والرسم والأقمشة. ولئن كانت تفضل الأسود والأبيض في أفلامها، فإنها تستعمل الألوان في أعمالها التشكيلية، فتتخيّر اللون الهندسي لستائرها وتنصيبات الأقمشة والأوراق المقصوصة، ولونا مموّها ومظلَّلا للوحاتها المائية ذات الشخصيات الشبحية.

بيد أنها تستفيد كثيرا من لغة المسرح والسينوغرافيا في بناء مشاريعها. فالعناصر الركحية، وستائر الكوميديا ديلارتي، وأزياء أرلوكان.. هي مرجعيات تسمح لأعمالها بالمرور من الواقع إلى التخييل أو الإيهام.

صورة

تتبدّى تنصيباتها كديكور يمكن رؤيته من خلف ومن أمام، مثلما يمكن الولوج إليه عبر الستائر، فالستارة موتيف أساسيّ في عملها، تقول عنه “إنها ذات وجهين، كمرآة ذات صفحتين، واحدة تعكس صورتنا، والثانية ما يختفي وراءها”. وبما أنها تحب حجب الفضاء أو تغييره باستعمال مواد فقيرة أو بسيطة لخلق عالم آخر، فقد وجدت في القماش الوسيلة المثلى، من جهة ثمنه، ومن جهة قابليته للتحوّل والتنقل.

الموتيف الثاني الذي يتكرّر في أعمالها هو الغابة، التي تحضر بكثافة في أفلامها ولوحاتها التي تستعمل فيها قصاصات الورق الملون. هذا الموتيف، على غرار الستارة، لا يحيل على شيء مخصوص، بل يحيل على عالم الخرافات واللاوعي والحلم.

ففي اعتقادها أن ثمة أشياء كثيرة لا نراها بالعين المجردة، لأننا أقمنا علاقتنا بالعالم على ما نسمعه وما نراه فقط، والحال أن هناك أشياء وظواهر لا ندركها، لاسيما في المجتمعات التكنولوجية التي ضيّعت، حسب رأيها، علاقتها بكل الأشياء اللامرئية.

أقامت برندنبورغ منذ مطلع الألفية معارض خاصة كان آخرها هذا العام في قصر طوكيو بباريس، حيث قدمت مشروعا شاملا استوحته من المسرح، وأقامته حول مبدأ الطقوس، كإمكانية لاستكشاف العلاقات بين الفرد والمجموعة، وخلق أشياء مشتركة.

في هذا المعرض تنوّعت الثيمات والأشكال والموتيفات، وحضرت الحركة والركح والألوان والموسيقى والأقمشة، وتنوّعت أنماط الإبداع من التنصيب والنحت إلى الأفلام التي صيغت خصيصا لهذا المعرض، حيث انفتحت السردية على الأصيل والمصطنع، الواقعي والمتخيل، وعلى العالم الطبيعي والأنشطة البشرية، الداخلية منها والخارجية.

وكانت لا تلتزم بقاعدة محددة في إنجاز معارضها، بل تكيّفها بحسب الفضاء الذي ستعرض فيه، لتخلق عالما مُمسرحا يحفل بثوابت عالمها المخصوص، حيث الستائر الملونة والموجودات الضخمة والموسيقى الساحرة.

صورة

في هذا المعرض الذي حمل عنوان “الوسط أزرق”، والذي يفترض أن يتواصل حتى نهاية يناير القادم بعد أن أخلّت الجائحة بانتظامه، خلقت الفنانة متاهة لكي لا يكون المكان محدّدا، ولا يعرف الزائر أين هو بالضبط، إذ هناك زوارق وخيام وستائر مسرح، كدعوة إلى إعادة تحديد الفضاء، والأمكنة التي نريد العيش فيها. وقد وجدت في القماش وسيلة مثلى لأنه نوع من الهندسة المعمارية المضادة، ولا يحتوي على زوايا قائمة، ما يجعله طيّعا لشتى الاستعمالات.

وتعترف الفنانة الألمانية أنها تحب ما هو رخو، ناعم، طيّع، لأنها تستطيع أن تخلق منه فضاء يشمل ويحوي ويحمي. وهي تستفيد في ذلك من تجارب المهندسين المعماريين الألمانيين فرنير بانتون (1926 – 1998) ونانّا ديتزل (1923 – 2005) اللذين ابتكرا في السبعينات ما عرف بالفضاءات الرخوة أو الناعمة، مثلما تستفيد من الممارسة التقليدية القديمة التي لها علاقة بالمسرح والفولكلور والطقوس.

تقول أولاّ فون برندنبورغ “في عملي، كما في معارضي، أحب حياة الترحّل، وعدم الانحصار في مكان محدد. لذلك أستعمل القماش، الذي أعتبره مادة ترحال، حيث يمكن أن نقُدّ منه خياما وبيوتا، بل نحن نحمله على أجسادنا من المهد إلى اللحد. ثم إن القماش يتنقل بسهولة، يمكن ثَنْيُه وطيّه لتقليص حجمه، ويمكن خزنه بسهولة، ونشره في أحجام كبيرة”.

وتضيف “هو في نظري صنو للاستقلال، استقلال الوسائل واستقلال الأمكنة. وما حاولت القيام به هو خلق فكرة عدم الجماد، وعدم تراتبية الفضاء، لتحريك الحدود ودعوة الزوار إلى أن يكونوا طرفا في المعرض”.

16