الأغاني.. سجل صوتي لحركة التاريخ والثقافة

التيارات الغنائية الجديدة تواصل زحفها رغم صد المحافظين.
الأحد 2020/11/29
تقنية الهولوجرام تستدعي أم كلثوم

لا أحد يعلم متى بدأ البشر في الغناء، غير أنهم منذ البداية في الغناء لم يتوقفوا عنه. استمرَّ الغناء أنيسا في رحلاتهم على الأرض، وصاحبا لا يُفارقهم في الحلِّ والترحال، وفي الأفراح والأتراح، لا يكف أبدا عن المشاركة والمواساة، حتى صار مُكوِّنا أساسيّا في ثقافاتهم ومعبِّرا مُخلِصا عن وجدانهم الفرديّ والجمعي.

لو أردنا التعرُّف إلى ثقافة ما، عبر استكشاف البشر وتقاليدهم وأفكارهم، فسيكون الاستماع إلى الأغاني مدخلا سهلا وموثوقا تماما؛ قد نحتاج أولا إلى ترجمتها وفهم سياقاتها المتفرِّدة، لكنها ليست معضلة على كل حال، فترجمة الأغاني أهون كثيرا من ترجمة الكتب والدراسات، وأصدق تعبيرا وأسرع لمعرفة مكنون الثقافة.

حين نختار دراسة الأغاني كمدخل للتعرُّف إلى ثقافة بعينها، يسقط منا الكثير مما نهدف إلى معرفته بكل أسف، إذ لم يتوصَّل البشر إلى وسيلةٍ ناجعة لتسجيل الأصوات واستعادتها قبل أواخر القرن التاسع عشر، عندما اخترع توماس أديسون آلة الفونوغراف عام 1877، وبدأ يُسوِّق لها تجاريّا عبر شركته الشهيرة آنذاك.

وصارت الآلة المعجزة منذ ذلك الوقت تسافر عبر البلاد والقارات، عن طريق مجموعة من الرواد المحبين للموسيقى والتسجيلات، منهم مَن أتى بها إلى مصر قبل مرور عقدين على إعلان اختراعها، وبدأت شركات الأسطوانات قبل نهاية الألفية الثانية تظهر بكثافة لتحفظ للأجيال التالية الأصوات الصيّتة لأشهر المطربين، من أمثال عبده الحامولي وعبدالحي حلمي ويوسف المنيلاوي وغيرهم، ممن أدركوا وصول الآلة قبل أن تندثر أصواتهم بغير رجعة.

وبسبب ارتفاع أثمان آلات الفونوغراف في ذاك الوقت، أو الجيل التالي منها والمسمى بالجرامافون، تواجدَت الآلة حصريّا في قصور الأثرياء، لذلك نجد التسجيلات التي وصلَتنا من هذه الفترة تعكس ذَوق الطبقة الأرستقراطية اللصيقة بالأسرة الحاكمة، وما يشتمل عليه هذا الذوق من تنويعات موسيقية متأثرة بفنون ذلك الزمان.

الموسيقى والتحولات الشعبية

تأخَّرَت الأغاني الشعبية في شق طريقها للأسطوانات والتسجيلات حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وإعلان مصر سلطنة مستقلة عن الإمبراطورية العثمانية الآخذة في الأفول قُرب نهاية الحرب، بل وتأخَّرَت مزيدا من الوقت نتيجة لطبيعة الأغاني التي واكبَت فترة الاضطراب، إذ يتحوَّل المزاج في أوقات الأزمات صوب الأغاني المبتذَلة والممتزجة بالمجون، ربما هرَبا من الأجواء المشحونة بالتوتر.

لم تشرع الأغنية الشعبية في التعبير المباشر عن وجدان المصريين إلا مع ثورة 1919، والتي شهِدَت انتشارا واسعا ومُلفِتا لأغاني سيد درويش، وعلى رأسها أغنية من مسرحية نجيب الريحاني الاستعراضية “قولوله”، هي أغنية “قوم يا مصري مصر دايما بتناديك”، التي دسَّ الشاعر بديع خيري بين طيّات أبياتها عدة إشارات للزعيم المنفي سعد زغلول.

يقول الشاعر في الأغنية “يوم ما سَعدي راح هدَر قُدام عينيك”، ثم يُبشّر بعودته قائلا “نيلها جاي السعد منه”، وكانت السلطات البريطانية آنذاك قد منعَت التلفُّظ باسم الزعيم المنفِيّ، فالتقط عامة الناس الحيلة الذكية من الثنائي بديع خيري وسيد درويش، وحفظوا الأغنية وراحوا يُردِّدونها كنوع من المكايدة والمقاومة الفنية لسطوة الأحكام العسكرية.

ما قام به درويش مع رفيق رحلته خيري، ليس استثناء على الإطلاق، فلا يبتعد عما قدَّمه بليغ حمدي وعدد من مُجايليه إبان معارك الاستنزاف مع إسرائيل وبالتزامن مع ملحمة العبور، ففور تأكُّده مما تناقلَته الأخبار عن عبور الجيش المصري إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، ضرب بليغ حمدي موعدا مع صديقه الشاعر عبدالرحيم منصور، واصطحب زوجته الفنانة وردة وتوجَّه مباشرة ودون تصريح مسبَق إلى مبنى الإذاعة المصرية، كي يُسجِّل أغنيتها الشهيرة “وأنا على الربابة بغني، ماملِكش غير غِنوة أمل للجنود أمل للنصر”.

رغم ما تتصف به أغاني المهرجانات الجديدة من إسفاف وركاكة فإن الرواج اللافت لهذا الاتجاه يدعو إلى فهمه

ومكثوا هناك يُبدعون الأغاني ويبثّونها مباشرة على أثير الإذاعة دعما للجنود وتحميسا للجماهير، وكان استدعاء ذكيّا ذلك الذي قام به عبدالرحيم منصور حين ذكر الربابة، لكونها آلة المصريين الشعبية التراثية التي طالما صاحبَت غناءهم لسِيَر الأبطال والملاحم الكبيرة.

 كما كان لآلة السمسمية دورٌ مكمِّل قبل وقف إطلاق النار بعد العبور، إذ شاركَت المقاومة الشعبية في صد العدوان على مدينة السويس، فتغنّى بصُحبتها محمد حمام “يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي، أستشهد تحتك وتعيشي انت”.

تكرر الأمر مع ثورة يناير 2011 والأحداث الجسام التي تلَتها، فكانت أغاني فرق “الأندرجراوند” و”الروك” البديلة تنبع من ميدان التحرير الشهير وتتواتر يوميّا بالتزامن مع التطورات، والغريب أن أشهر ما تم استدعاؤه إلى جانب هذه الأغاني الحديثة من مخزون الوجدان الجمعيّ، كان من ألحان سيد درويش وبليغ حمدي.

سكنَت هذه الأغاني وجدان قطاع كبير من المصريين لما يصل في بعض الحالات إلى قرابة المئة عام، فإذا بهم يستدعونها بسهولة وعفوية يوم احتشدوا في الميدان طلبا للتغيير، فالأغاني لا تُعبِّر فقط عما يعتمل في القلوب ويسكن بالوجدان، بل إنها تفعل ذلك بسرعة فائقة ومرونة لا يُضاهيها فنّ آخر.

فمن المستبعد تماما أن يصدر عمل فني كالرواية أو المسرحية أو الفيلم السينمائي والتسجيلي بالتزامن مع حدث كبير ويكون بإمكانه التعبير عنه بصدق يؤهله للمكوث طويلا في وجدان الناس، لا يحدث ذلك قبل سنوات من التأمل ومراقبة الحدث من مسافة معتبَرة، أما القصيدة والأغنية، فباستطاعتهما أن يعكسا بأمانة رؤية الناس ومشاعرهم حالما تحدث التحولات.

تأريخ واستقراء

الأغاني معبّر صادق عن الثقافة والمشاعر الإنسانية (لوحة للفنان جورج البهجوري)
الأغاني معبّر صادق عن الثقافة والمشاعر الإنسانية (لوحة للفنان جورج البهجوري)

للأغاني تنويعات وصنوف شتى، فلا يكاد شأن إنساني يخلو من ارتباط مباشر بشكل من أشكال الغناء، لذا لو أردنا التعرف على طبيعة الحب وشكل العلاقات العاطفية في ثقافة ما وزمن بعينه، علينا بدراسة أغانيها الرومانسية المفعمة بعواطف متَّقدة، ولو رغبنا في فهم التصورات التي تُقدمها أيديولوجيا معيَّنة، فالأغلب أننا سنجد مفاتيح هامة في الأغنيات التي روَّج لها جهازُها الإعلامي.

كما تكشف أغاني الأطفال طبيعة التنشئة، وتبين الأغاني الدينية العلاقة مع المعبود، بينما تظهر الأغنيات الساخرة روح الدعابة ونكهة الحس الفكاهي، فلا غرابة في كون الأغاني معبِّرا صادقا عن مفردات الثقافة الإنسانية.

اهتم العديد من الكُتاب بتأمل وتأريخ الفترات الزمنية والتحولات الثقافية عبر الكتابة عن الأغاني التي تزامنَت معها، والصيحات الموسيقية التي ظهرَت إبّان حقبة تاريخية ما، عن طريق تنويعات مختلفة من الكتابة، تجلَّت أحيانا في صورة كتابة سِيَرية وذاتية كالتي قدَّمها الكاتب والطبيب عادل أسعد الميري في كتابه “شارع الهرم”، أو في صورة الكتابة عن أعلام الموسيقى المؤثرين، ممن شهدوا فترات زمنية هامة وتركوا عليها بصماتٍ لا تمّحي، مثلما فعل الكاتب والناقد الموسيقي مصطفى حمدي حين أصدر كتابه “مذكرات عرّاب الموسيقى هاني شنودة”.

وفي هذا الكتاب تم رصد رحلة المبدع الذي شهِد فترة الانفتاح والتحولات الكبرى في المجتمع المصري، وساهم بموسيقاه في بلوَرة التحديثات في شكل أغانٍ وقوالب موسيقية حديثة وصادمة آنذاك.

ثمة شكل آخر قدَّمه الكاتب المصري ولاء كمال في كتابه “أيامي مع كايروكي.. حكاية جيل أراد أن يغيّر العالم”، ويؤرِّخ فيه لفترة العام ونصف العام التي لازَم خلالها فرقة الروك البديل الشهيرة، موثّقا رحلة الفريق الغنائي والإشكاليات والصراعات الفنية والشخصية التي خاضها أفرادُها حتى شقوا لأنفسهم طريقا خاصّا ومغايرا لمحيطهم.

لم يكتف ولاء كمال فقط بالتركيز على تجربة كايروكي، بل إنه يُقدِّم من خلال كتابه دراسة استقرائية اجتماعية، تتَّخذ منها نموذجا لجيل يبحث عن صوته المنفرد، وعن نغمته المُغايرة لما ساد قبله لعقود من الركود الفني والاجترار للنغمات القديمة، جيل يخوض صراعا لتقرير المصير مع أجيال سبقَته، ويرى بإمكانه تغيير العالم.

موجات مغايرة

الموسيقى المعاصرة تنبئ بتغيير كبير
الموسيقى المعاصرة تنبئ بتغيير كبير

أعقبت الروك البديل والأندرجراوند موجات أخرى من الأغاني المغايِرة، التي تعكس واقعا يتغير باطِّراد ويستدعي التأمل، أشهرها بالطبع موجة أغاني “المهرجانات” التي لاقَت انتشارا لافتا بين أوساط الشباب ورفضا صلبا بين صفوف المحافظين، إلى درجة أن يُطالب البعض باستئصالها ويتعامل معها كسرطان لو لم يُجابَه بالحزم اللازم سيتكاثر ويأتي على الأخضر واليابس.

وبالرغم ممّا تتصف به أغاني المهرجانات من إسفاف وركاكة في اختيار الكلمات، باعتراف الكثيرين ممن يُفضِّلون هذا اللون الغنائي، فإن الرواج اللافت لهذا الاتجاه خلال السنوات الأخيرة يؤكِّد تماسَّه مع شريحة عريضة من المنتمين إلى جيل التكنولوجيا والتطبيقات الرقمية، ما أرعب أصحاب المزاج المحافظ وجعلهم يستدعون أقوى دفاعاتهم في مواجهة التيار الجارف، فإذا بهم يستخدمون التكنولوجيا، ممثَّلة في تقنية الهولوجرام، ويستدعون أم كلثوم بشخصها ومهابتها المعروفة، وفساتينها وبروشاتها الأكثر أناقة، للوقوف من جديد فوق مسرح الغناء ومواجهة التيار المرعب، إذ ربما يفزع الصغار ويعودون من حيث أتوا.

لكن هيهات بالطبع، فمهما نجح المحافظون في الحد من قوة اندفاع التيار الجديد، فلا مفر من أن يواصل تقدُّمه ويجرف أمامه تلك الحواجز المؤقتة، ويشق طريقه الذي لا يعلم إلا الله إلى أين سيصل بنا، ربما إلى محطةٍ أكثر توافقا مع الذوق العام وتعبيرا عن مكنون وجداننا الجمعيّ، دائم التحول.

ومهما بدت أغاني “المهرجانات” غريبة عن مكنوننا الثقافي، فهي انعكاس دقيق لطبيعة جيل يتغذّى على التكنولوجيا الرقمية، لا يمتلك الصبر على التعلُّم ولا التثقيف النظري، يقفز مباشرة لإنتاج فنونه عن طريق توظيف التقنيات المستحدَثة، ليس فقط في الأغاني بل في التمثيل وتقديم البرامج وصناعة المحتوى.

سادَت أنماط شبيهة ربوعَ العالم إبان العقدين الأخيرين، فشاعَت موسيقى التكنو بين أوساط الشباب، تلك التي يُمكن إنتاجها حتى في غرف نوم المراهقين باستخدام أجهزة الكمبيوتر المنزلية؛ لا حاجة لدى هذا الجيل لاستوديوهات مجهَّزة ولا لفِرق موسيقية محترفة حتى يُنتج موسيقاه التي تعبِّر عنه.

هو بحاجة فقط إلى أن يسد آذانه على الجيل الأسبق منه، لتنزيل آخر تحديث لبرنامج يختص بصناعة الموسيقى، وإضافة أحدث عينات صوتية وتركيبات إيقاعية صارت متاحة في القرية العالمية، كي يعكس تحولات لا يمكن توقُّعها بسهولة ودقة، ويُعبر عن وجدان جمعيّ عابر للثقافات، آتٍ لا محالة.

الموسيقى تتطور باستمرار (لوحة للفنان عمار النحاس)
الموسيقى تتطور باستمرار (لوحة للفنان عمار النحاس)

 

15