الأصابع المُبصرة تستعمر الفراغ

القاهرة – يقدم “صالون النحت” في دورته الثانية المنعقدة في قصر الفنون بدار الأوبرا صورة بانورامية للمشهد التشكيلي المصري المعاصر في ميدان النحت، حيث يحتضن أعمال 57 فنانا من مُستعمري الفراغ ومُطوّعي الغرانيت والحديد والرخام والخشب والخامات المختلفة.
حين تتماهى الأمكنة التاريخية مع مقتنياتها وإشعاعاتها الثقافية، تتحول الأفكار إلى أجنحة محلقة، وتصل الأطروحات والرؤى الإبداعية إلى غاياتها المنشودة، محدثة أثرا تنويريّا قوامه الإدهاش والإمتاع والتغذية الروحية. هكذا، يطلق “قصر الفنون” الفريد في ساحة الأوبرا المصرية رسالاته المعرفية والجمالية التي تمتزج فيها سمات الحضارة والعراقة، ومستجدات التقنيات العصرية في المذاهب والتيارات الفنية.
يجسّد “صالون النحت” أحد أبرز الكرنفالات النوعية التي يثري بها “قصر الفنون” الحركة التشكيلية في مصر، نظرا لخصوصية هذا الفن منذ عهد الفراعنة وتماثيلهم الخالدة، وصولا إلى عصر النهضة وعمالقة التعامل مع الحجارة من المثّالين الرواد وتلاميذهم الأفذاذ من مشكّلي قوة مصر الناعمة، التي بلغت ذروة تأثيرها في النصف الأول من القرن الماضي.
انطلقت الدورة الثانية لصالون النحت في 18 سبتمبر الجاري، وتستمر حتى 7 أكتوبر المقبل، وتأتي بعد ثلاثة عشر عاما من الدورة الأولى، التي اقتصرت على الخامات النبيلة في ذلك الوقت.
تضم الدورة الجديدة 57 فنانا من أجيال واتجاهات مختلفة، وقد حررت اللجنة العليا للصالون في هذه المرة الأعمال المشاركة من كافة القيود والشروط، باستثناء عدد القطع المعروضة، إذ يتضمن الصالون عملين على الأكثر لكل فنان.
يجد المتجول في قاعات وردهات القصر التاريخي الفسيح ذاته منفتحا على خارطة فن النحت المعاصر في مصر، بتنويعاته وطرائقه المتنوعة، وخاماته المتعددة بين الغرانيت والحديد والرخام والخشب والجبس والخزف والبوليستر وغيرها، التي يُطوّعها بسلاسة مُلّاك الفراغ الجدد بأصابع مُبصرة.
تتألف اللجنة العليا للمعرض من نخبة من التشكيليين البارزين، منهم: خالد سرور، عصام درويش، إيهاب اللبان وعبدالعزيز صعب. ويكرم الصالون ثلاثة من رموز النحت في مصر، هم: فاروق إبراهيم، عبدالهادي الوشاحي وكمال عبيد.
حلقات متصلة
من حلقات الإبداع المتصلة في صالون النحت، تأتي تجربة الفنان كمال عبيد (1918-2002)، عضو جماعة “الفن والحياة”، وتمثل أعماله البرونزية حالات الشموخ للبشر، والتوثب والانطلاق للكائنات من طيور وحيوانات، في رؤية بنائية تستوعب اتجاهه الخاص بأبعاده الموضوعية والرمزية.
تنفتح تجربة كمال عبيد على الأسلوبين الإغريقي والفرعوني، وتميل تعبيراته إلى القوة والوضوح، وإبراز الصفات الأصيلة لما يصوّره، مثل قدرة الإنسان على السيطرة وفرض الإرادة، وخفة الأرنب وسرعته، ووداعة الحمامة ورقتها.
وتتسم تكوينات النحّات عبدالهادى الوشاحي (1936-2013) بالانسيابية والرشاقة، فالبشر يبدون كما لو أنهم عازفون في فرقة موسيقية أو راقصو باليه، وتحتفظ التشكيلات المرهفة بأنغام داخلية وضمنية تفيض تلقائيّا من خلال اللحظة الدرامية التي يرصدها الفنان.
تنطق أعمال الوشاحي بلغة التحرر وروح التمرد وتقنيات الحداثة وبلاغة المعماريات الموروثة من الفن الإغريقي وتفصيلات الفن الفرعوني، وتحقق أعمال الفنان رؤية مغايرة في ما يخص نقاط الارتكاز، حيث يثور الشكل على القوانين المألوفة، منطلقا بدائرية وتناسق نحو احتلال الفراغ بأكمله وكأنه في حالة تحليق وطيران.
أما الفنان الثالث المكرم في صالون النحت فهو فاروق إبراهيم (1937-2010)، نقيب التشكيليين الأسبق، يقدم من خلال خامة البوليستر وغيرها تنويعات بصرية متوازنة، تبرز المرح الإنساني والبهجة والأمل، كما في تكوين الأزياء المتطايرة، والفتاة الراقصة، وغيرهما.
يجرد الفنان الجسد، مختزلا تفاصيله الزائدة، ليغدو طقسا منسجما مع المناخ السائد حوله، فيشتبك البشري والكوني في نسق تعبيري. وتمنح هذه الخصائص الفنية فاروق إبراهيم طاقة تمكنه من قراءة الأعماق النفسية للشخصيات التى يصوّرها.
سمات الهوية
يحفل صالون النحت بتجارب تعكس الهوية المصرية من خلال ملامح الوجوه والمضامين الاجتماعية والقيم الروحية والإيمانية والدينية والأجواء الشعبية وغيرها، وفي هذا الإطار تأتي أعمال المثّال محمد الفيومي، الذي يقدم بورتريه الرجل المصري البسيط بجلبابه وغطاء رأسه وجسده المترهل وجلسته الأرضية وابتسامته الراضية. ويستوحي جمال عبدالناصر مفردات وعناصر الفلكلور وأيقونات الثقافة الشفاهية الموروثة في بناء أخيلته التي تنفتح على الحكايات والأساطير والأحلام. ويحفر سعيد بدر الغرانيت الصلد بحساسية فائقة صانعا منه صحائف تستوعب نقوشا ورموزا وخطوطا تفتح الذاكرة على خزائن بصرية ومعرفية محفورة في الوجدان الجمعي.
في أعمال عصام درويش وناثان دوس البرونزية، يكشف الرأس الآدمي جوانياته وما يعتمل في الداخل الإنساني من صراعات وهواجس وأفكار قد تؤدي إلى الجنون أو الهلاك، ولا يمتلك الإنسان من أجل غد محتمل غير المقاومة. وينحاز الفنان عبدالعزيز صعب لخامة الخشب، مشكلا بها حيواناته المنزلية التي تقطر وضاءة وألفة.
“صالون النحت”، في دورته الثانية، تمثيل نوعي جيد لأبرز ثيمات وتيارات النحت في مصر، وصوت من أصوات القوة الناعمة يداعب المخيلة البصرية الراغبة في الشحن الجمالي، في واقع تسوده الملوثات.