الأزمات والخرافة في المجتمعات العربية

في ظل الأزمات القاتلة التي تعصف بالمجتمعات، خاصة العربية، من حروب وصراعات مدمرة، إلى تمدد جبهات المعارك وتصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، تبدو المجتمعات عالقة في دوامة من التحديات التي تزيد أوضاعها تعقيدًا. ومع تردي الخدمات الصحية والتعليمية والانهيارات السياسية والأمنية، باتت الشعوب تبحث عن منفذ، حتى وإن كان وهميًا.
هنا يظهر الميل المتزايد لتصديق الخرافات والأساطير، كنوع من الهروب الجماعي من مواجهة الواقع. الأبراج، التبصير، التنجيم، وحتى الادعاءات الزائفة حول القوى الغيبية، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة الكثيرين. يبدو أن البحث عن رؤية للمستقبل من خلال هذه الوسائل قد تفوق على السعي لفهم الواقع، رغم أن ما تقدمه هذه الوسائل ليس إلا سرابًا يزيد الضبابية.
لكن هذا الميل لا يظهر من فراغ. المجتمعات التي عانت لعقود من تهميش الفكر النقدي والتحليل العلمي، باتت غير قادرة على بناء أدوات فكرية تساعدها على رؤية المشهد بواقعية. هذا الغياب للتفكير النقدي فتح المجال أمام موجة جديدة من صانعي المحتوى يعززون هذه الطريقة السطحية في التفكير، ويقدمون أنفسهم كخبراء في الماورائيات، ويخاطبون مخاوف الناس ورغبتهم في الطمأنينة عبر محتوى مليء بالإثارة، لكنه خالٍ من المصداقية.
في الماضي كان المسلمون روادًا في العلوم الفلكية، ويُنسب لابن خلدون قوله “حين كان المسلمون يحسبون موعد ومكان الكسوف بكل دقة، كان الأوروبيون أثناء الكسوف يختبئون في منازلهم اعتقادًا منهم أن غولًا قد ابتلع الشمس.”
◄ عندما تتحرر العقول من أوهام الماضي، ومن الخرافات والمعرفة المشوهة، حينها فقط يمكن أن تبدأ هذه المجتمعات في كتابة قصتها بطريقة مختلفة
لكن المفارقة المؤلمة اليوم أن بعض المجتمعات العربية التي كانت رائدة في هذا المجال أصبحت تتبنى معتقدات خرافية حول ظواهر مثل الكسوف والخسوف، معتبرةً إياها نذير شؤم، بدلاً من اتباع النهج العلمي الذي أسسه أجدادهم لتفسير هذه الظواهر.
الإشكالية هنا ليست فقط في لجوء الناس إلى هذه الخرافات، بل في تأثير هذه الظاهرة على الوعي الجمعي. عندما يصبح الاعتماد على التنجيم والأساطير وسيلة لفهم الحياة، يغيب المنطق، وتُفقد القدرة على مواجهة التحديات بوعي حقيقي. وهنا يصبح من السهل استغلال هذه الشعوب، لأنها غارقة في البحث عن أجوبة خاطئة بدلًا من العمل على بناء حلول واقعية.
التعلق بالخرافة ليس ضعفًا في الوعي الفردي فحسب، بل نتيجة لسنوات طويلة من تدمير مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام، فالنظام التعليمي لا يعزز التفكير النقدي، والإعلام يغذي الخوف بدلًا من الأمل، وصانعو المحتوى يستغلون هذه الثغرات لتحقيق الشهرة والربح، دون اعتبار للضرر الذي يحدثونه في العقول.
لكن الطريق الذي يسلكونه مدمر لخلايا العقل والبنية الفكرية للمجتمعات. ففي ظل اليمن الذي يعاني من الكوليرا، وليبيا المنهوبة ثرواتها والمقسمة بين حكومتين، والسودان المغتال، وغزة المُبادة، والضفة المنكوبة، وسوريا المشرذمة لألف قطعة، ولبنان المنهار، والعراق الذي يقف على شفا الجحيم، ومصر والأردن القلقين اللذين يعانيان من تحديات اقتصادية وأمنية حقيقية.. هل هناك إمكانية لإنقاذ هذه المجتمعات من نكباتها وهزائمها وهياكلها الهشة المحاطة بالخرافات والتنجيم؟
الإجابة تكمن في تطوير الوعي، في بناء أدوات نقدية تسمح للفرد برؤية الواقع كما هو، بعيدًا عن وهم الخرافات.
هناك حاجة إلى العمل على بناء بنية مادية بالتوازي مع عقلية قيمية. هذه المجتمعات بحاجة إلى شجاعة فكرية لا تأتي من الأبراج والتبصير والسباحة في فلك الخرافات، بل من مواجهة الحقائق والعمل على تغييرها.
المستقبل لا يُبنى بالسحر، بل بالعلم. والخرافة قد تمنح راحة مؤقتة، وهي انعكاس لحاجة دفينة إلى البحث عن حلول سحرية، لكنها لن تكون أبدًا مفتاحًا للنجاة. الهروب من الحقيقة قد يكون مريحًا، وقد يُعتبر طريقًا أسهل، لكنه لن يغير الواقع. مواجهة الحقيقة بشجاعة متمثلة في المنطق والنقد والتحليل والتفكير هي الخطوة الأولى نحو التغيير.
لذا عندما تتحرر العقول من أوهام الماضي، ومن الخرافات والمعرفة المشوهة، حينها فقط يمكن أن تبدأ هذه المجتمعات في كتابة قصتها بطريقة مختلفة.