"الأرامل" في كتاب مينيكه شيبر: دراسة عن الصمت الثقافي والصمود الإنساني

ندوة تقدم قراءة إنسانية وثقافية معمقة لكتاب تناول فئة منسية من النساء.
الاثنين 2025/04/28
كاتبة تخوض في عوالم منسية

بترجمة واعية وملتزمة، نقل لنا المترجم عبدالرحيم يوسف كتاب "الأرامل" للهولندية مينيكه شيبر، الذي يبحر في عالم الأرامل ثقافيا وسوسيولوجيا وسياسيا ودينيا، حيث اهتمت صاحبته بفئة مهمشة، محاولة نقل أصواتهن واستكشاف أبرز قضاياهن. ومنذ أيام حلت الكاتبة والمترجم ليتفاعلا مباشرة مع قرائهما وليحللا الصورة النمطية للأرامل وأوجهها المتشابهة أو المختلفة باختلاف الشعوب والحضارات.

في إطار دورها الريادي في إثراء الحوار الثقافي والفكري، استضافت مكتبة الإسكندرية من خلال قطاع التواصل الثقافي برئاسة الدكتور محمد سليمان، نائب مدير مكتبة الإسكندرية، ندوة أدبية متميزة لمناقشة كتاب “الأرامل” للكاتبة الهولندية البارزة مينيكه شيبر، بترجمة رفيعة قام بها المترجم المصري عبدالرحيم يوسف، والذي كان ضيفا للندوة التي عقدت بحضور الكاتبة الهولندية البارزة، وأدارها الأديب الكبير منير عتيبة، مؤسس مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية. جاءت هذه الندوة في سياق الاهتمام المتزايد بالقضايا الإنسانية والاجتماعية، وسعيا لفتح مساحات للنقاش حول الفئات المهمشة، وعلى رأسها الأرامل، اللاتي يعشن في الظلال غالبا بعيدا عن الأضواء والتحليل الثقافي والنقدي.

ناقش المشاركون في الندوة التناول العميق الذي قدّمته شيبر لهذه الفئة المنسية من النساء، وكيف استطاعت أن تمزج بين التوثيق التاريخي، والتحليل الاجتماعي، والتأمل الفلسفي، لرسم صورة بانورامية عن الأرامل في سياقات ثقافية وعرقية وزمنية ودينية مختلفة. كما أُعيرَ اهتمام خاص لترجمة عبدالرحيم يوسف، الذي نقل النص من الإنجليزية إلى العربية بدقة ومرونة، مع الحفاظ على الشق الإنساني والعمق الثقافي للنص الأصلي.

قضية معقدة

كتاب "الأرامل" يرتكز على بحث معمق وشامل حول مفهوم الأرملة ومكانتها عبر التاريخ، وبين الثقافات والأديان المختلفة
كتاب "الأرامل" يرتكز على بحث معمق وشامل حول مفهوم الأرملة ومكانتها عبر التاريخ، وبين الثقافات والأديان المختلفة

تُعد مينيكه شيبر واحدة من أبرز الأصوات الأدبية في هولندا، وقد كرّست عددا من أعمالها لاستكشاف قضايا إنسانية بالغة التعقيد تتعلق بالجسد، والهوية، والمكانة الاجتماعية للمرأة في مختلف الثقافات. تتميز كتاباتها بالعمق، والجرأة، والانفتاح على الأسئلة الكبرى المتعلقة بالحياة والموت والحرية. وقد لاقت أعمالها اهتماما واسعا، حيث تُرجم العديد منها إلى لغات مختلفة، وشكّلت مادة للنقاش في الأوساط الأكاديمية والأدبية.

ويُعد المترجم عبدالرحيم يوسف أحد المترجمين البارزين، حيث يُعرف بدقته في اختيار نصوص ذات قيمة أدبية وإنسانية عالية، وقدرته على نقلها إلى اللغة العربية بلغة رشيقة تحافظ على روح النص الأصلي. وفي ترجمته لأعمال مينيكه شيبر، ترجم النص عن اللغة الإنجليزية كلغة وسيطة بين النص الهولندي الأصلي والعربية ونجح ببراعة في الحفاظ على بنية النص ومشاعره وتفاصيله الثقافية الدقيقة.

وليس هذا الكتاب هو النص الوحيد المترجم له عن الأديبة والكاتبة الهولندية فقد ترجم لها أيضا “تلال الفردوس – تاريخ الجسد الأنثوي بين السلطة والعجز”، و”ومن بعدنا الطوفان – حكايات نهاية البشرية”، و”المكشوف والمحجوب – من خيط بسيط إلى بدلة بثلاث قطع”.

وتُظهر هذه الترجمات مهارته العالية في التعامل مع نصوص تتشابك فيها الأبعاد الثقافية والنفسية والاجتماعية، وتُسهم في فتح أفق واسع أمام القارئ العربي لفهم تجارب النساء في سياقات متباينة.

تناولت الندوة أبرز ما جاء في كتاب “الأرامل” حيث يرتكز الكتاب على بحث معمّق وشامل حول مفهوم الأرملة ومكانتها عبر التاريخ، وبين الثقافات والأديان المختلفة. وينطلق الكتاب من سؤال محوري: لماذا لا يزال وضع الأرملة مثار جدل ومصدر قلق اجتماعي حتى في العصور الحديثة؟

وقد أشارت الكاتبة إلى أحدث إحصائيات الأمم المتحدة لعام 2021، التي أكدت أن هناك ما يقرب من 258.5 مليون أرملة حول العالم، تعيش واحدة من كل عشر منهن في فقر مدقع. ورغم هذا الرقم الضخم، ظلت هذه الفئة مهمّشة، حتى من قبل الحركات النسوية التي أولت الأولوية لقضايا أخرى مثل العمل والتعليم.

ترصد شيبر هذا التهميش، وتربطه بمجموعة من العوامل، من بينها الحروب التي غالبا ما تترك النساء في مواجهة الحياة بمفردهن، بالإضافة إلى الفوارق العمرية في الزواج، حيث يتزوج الرجال عادة من نساء أصغر سنا، مما يزيد احتمال ترمل النساء.

الأرامل في الأمثال الشعبية

معاناة الأرامل تختلف من بلد إلى آخر
معاناة الأرامل تختلف من بلد إلى آخر

أحد أكثر المحاور إثارة في الكتاب هو تحليل الأمثال الشعبية المتعلقة بالأرامل. ففي مجتمعات كثيرة، تظهر الأرملة ككائن “غير مرغوب فيه” أو حتى “موضع شبهة”، كما في مثل مكسيكي يقول “من يتزوج أرملة يمكنه توقع بعض الوفيات في عائلته”.

وفي أماكن أخرى، يُحتفى بزواج الرجل مرة أخرى بعد وفاة زوجته كأمر طبيعي ومرغوب، بينما يفرض على الأرملة البقاء في حداد ويُمنع عنها الزواج مجددا.

وتستشهد شيبر بعدد من الأمثال التي ترسّخ هذه الصور النمطية، مثل “الزوجة الميتة هي أفضل الممتلكات في المنزل” (مثل كتالوني)، و”وفاة الزوجة تجدد الزواج” (مثل عربي). هذه الأمثال تعكس نظرة نفعية للمرأة، حيث تُعامل ككائن قابل للاستبدال، أو يُتوقع منها الانزواء والاختفاء من الحياة العامة بعد وفاة الزوج.

وفي الكثير من المجتمعات، فقدان المرأة لزوجها يضعها في حالة اجتماعية “غامضة”: ليست زوجة، وليست عذراء، ولا يُعرف كيف يُنظر إليها. هذا الغموض يجعلها هدفا للريبة، أو عرضة لفقدان احترام المجتمع. وفي مجتمعات تُعرّف المرأة غالبا من خلال الرجل (أب، زوج، ابن)، فإن الأرملة تصبح فجأة “بلا تعريف”، وبالتالي بلا حماية.

في أماكن أخرى، يُحتفى بزواج الرجل مرة أخرى بعد وفاة زوجته كأمر طبيعي ومرغوب، بينما يفرض على الأرملة البقاء في حداد ويُمنع عنها الزواج مجددا

بعض التقاليد فرضت على الأرامل طقوسا قاسية، مثل شرب ماء غُسّل فيه جثمان الزوج، أو النوم بجواره بعد الدفن، أو الزواج الإجباري من أحد أقاربه. ورغم أن الكثير من هذه الطقوس اختفى، إلا أن بقاياه الثقافية ما زالت موجودة، كما هو الحال في بعض مناطق الهند ونيجيريا.

ورغم أن هناك تشريعات في بلدان عديدة تهدف إلى حماية الأرامل، إلا أن التنفيذ غالبا ما يكون ضعيفا، خاصة في المناطق الريفية التي مازالت تتحكم فيها العادات والتقاليد.

في الهند، لفتت مدينة “فريندافان” الأنظار بوصفها ملجأ للمئات من الأرامل المنسيات، ما دفع منظمات حقوق الإنسان إلى إطلاق حملات لحمايتهن. وفي دول أفريقية مثل نيجيريا وغانا، تم سن قوانين لمنع وراثة الأرامل أو إجبارهن على الحداد القسري، لكن العادات لا تزال أقوى من القانون.

ورغم وجود اتفاقيات دولية مثل اتفاقية “سيداو” (CEDAW)، فإن خطط التنمية لا تُفرد بندا صريحا للأرامل، ما يجعل هذه الفئة عرضة للإهمال المؤسسي والاجتماعي.

ويتمثل الجانب المضيء في الكتاب في قصص الأرامل اللواتي استطعن تحويل محنتهن إلى فرصة لإعادة بناء الحياة. بعضهن وجدن في الترمل مساحة جديدة للحرية، خارج قيود الزواج التقليدي.

ففي بلدان مثل أوغندا ونيبال، أسّست الأرامل تعاونيات اجتماعية واقتصادية لدعم بعضهن البعض. وفي نيبال، ظهرت منظمات تطالب بحقوق الأرامل في كل من الميراث، والعمل، والتعليم. هذه المبادرات تُبرز قدرة الأرامل على التحول إلى فاعلات اجتماعيات، وليس مجرد ضحايا.

الأرامل في الأديان

واحدة من أبرز الأصوات الأدبية في هولندا كرست أعمالها لاستكشاف قضايا تتعلق بالجسد، والهوية، والمكانة الاجتماعية للمرأة
واحدة من أبرز الأصوات الأدبية في هولندا كرست أعمالها لاستكشاف قضايا تتعلق بالجسد، والهوية، والمكانة الاجتماعية للمرأة

يُفرد الكتاب فصلا للحديث عن موقف الأديان من الأرامل، ويُظهر كيف أن بعض النصوص الدينية تدعو إلى الرحمة تجاه الأرامل، بينما تسير الممارسة الفعلية في اتجاه آخر.

في الهندوسية، كانت هناك طقوس مثل “الساتي”، التي تدفع الأرملة إلى إحراق نفسها مع جثة زوجها، بدعوى الطهارة أو التضحية. أما في الديانات الإبراهيمية (اليهودية، المسيحية، والإسلام)، فرغم التوصيات بالعناية بالأرامل، فإن التقاليد الاجتماعية المرتبطة بهذه الأديان كثيرا ما مارست الإقصاء أو الوصاية على الأرملة.

كما يُسلِّط الكتاب الضوء على نماذج من الأرامل اللاتي تحوَّلن إلى قادة سياسيين أو ناشطات اجتماعيات. ففي بعض مناطق أميركا اللاتينية وغرب أفريقيا، أصبحت الأرملة رمزا للثبات والمقاومة، وسعت من خلال تجربتها إلى المطالبة بالعدالة الاجتماعية، والمساواة، وحقوق الإنسان.

هذا التحوّل يُعيد تعريف صورة الأرملة، لا بوصفها امرأة فقدت سندها، بل كامرأة أعادت اكتشاف ذاتها وموقعها في المجتمع.

لا شك أن كتاب “الأرامل” يجمع بين البحث السوسيولوجي والتحليل الثقافي والسرد الإنساني، ليمنح القارئ فهما أكثر شمولا وتجذرا لتجربة الأرملة، خاصة مع تجربة الكاتبة مع الفقد هي الأخرى أثناء علمها على الكتاب حيث فقدت حبيب عمرها وعاشت تجربة الترمل، فكتبت الكتاب بالألم الحقيقي وعن تجربة ومعايشة لتجربة الأرامل، كتبت ذلك من خلال لغة دقيقة، نُقل النص إلى العربية بترجمة واعية، تُقدَّم هذه التجربة بصورتها المعقدة والثرية، بعيدا عن التبسيط أو التنميط.

وما يجعل هذا العمل مهما ليس فقط ما يكشفه عن الماضي والحاضر، بل ما يدعونا إليه من إعادة النظر في المفاهيم السائدة عن هذه الفئة، وتوسيع دائرة الاهتمام بحقوقهن بدلا من تهميشهن على الرغم من حضورهن الكثيف في الواقع.

13