الأدباء ليسوا مطالبين بتوثيق الحقائق

من الروايات التي يثار حولها الجدل منذ صدورها هذا العام “تيزي، حياته الجديدة” لكميل دو توليدو. هذه الرواية، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة غونكور، استحسنها النقاد في معظمهم، ولكن بعضهم نظر إليها من زاوية الأمانة التاريخية، ومدى التزامها بالحقيقة في سرد سيرة الكاتب وعائلته. فهل من وظيفة الأدب الروائي أن يقدّم حقائق تاريخية، ولو على المستوى العائلي، أم أنّ الحقيقة لا تعنيه كثيرا لكونه في مفهومه الجوهري من وحي الخيال؟
منذ أعوام، طغى على المشهد الروائيّ الفرنسي هوس الكتابة عن الذات وعن الغير وحتى السرد التوثيقي بطريقة تنأى كثيرا عن التخييل الصرف، وكأن القرائح جفّت، أو أنّ كل واحد بات يرى في نفسه سرّة العالم، وفي سيرته تجربة فريدة لا بدّ من إطْلاع الناس عليها.
وكانت النتيجة أن انتقل المهتمون، نقّادا وإعلاميين، من الحديث عن تيارات ومدارس جديدة ورؤية مبتكرة لمقاربة الفن الروائي، إلى لغو لا يقدّم ولا يؤخّر؛ مرّة عن مدى أمانة هذا الكاتب أو ذاك في نقل واقع مخصوص، كما حدث لكْلُوِي دولوم الفائزة بجائزة ميدسيس لهذا العام عن روايتها “القلب الاصطناعي”، إذ كان النقاش معها في أغلب وسائل الإعلام مركّزا على حياتها كامرأة خمسينية عزباء، أكثر من اهتمامه بالرواية المتوجة وأسلوبها وفنياتها. ومرّة عن القضايا المرفوعة ضد بعض الكتاب لتعرضهم إلى سيرة أشخاص من وسطهم الثقافي أو الأسري، شأن إيمانويل كارير الذي استُبعدت روايته “يوغا” من شتّى المسابقات، وقضت المحكمة بألا يعاد طبعها، بعد شكوى طليقته.
سيرة تاريخية

النقاد، أو جلّهم، تعاملوا مع رواية «تيزي، حياته الجديدة» كوثيقة تاريخية وتناسوا أن الأدب يقترح وهْم الواقع
صار الجدل يحوم حول البحث عن الحقيقة في الأدب، بعد أن تبنّى أغلب الكتاب السردية التوثيقية، بدعوى أن من مهامّ الأدب أن ينقل الحقيقة، وباتت الغاية مدى تقمص الكاتب للشخصية وتطابق سيرته مع ما يرويه.
من هذه الزاوية وقع التعامل مع رواية “تيزي، حياته الجديدة” لكميل دو توليدو، التي تروي تمزّقا عميقا يعيشه البطل تيزي بعد انتحار أخيه الأكبر، ثم وفاة أمّه يوم ذكرى ميلاد أخيه، ثم وفاة أبيه. والحياة الجديدة التي يتوق إليها هي الهروب من كل ما يذكّره بالموت، وكان يحسب أن مغادرة باريس، التي تحوّلت في نظره إلى مقبرة، والعيش مع أطفاله في شرق فرنسا، سينجيانه من الذكريات الأليمة، وأنه سيطوي الماضي ويفتح عهدا جديدا من الدّعة والسَّعة.
ورغم انتقاله من باريس فإن جسده، الذي اكتسحته آلام حار في علاجها أو تسكينها، يعيده إلى الذاكرة، فيدرك أنه لا يستطيع أن يلغي الماضي، وأن تسكين الآلام لا يتمّ إلا متى سلّط الضوء على لغز الموتى، وخاصة انتحار أخيه، الذي يستهل روايته بمناجاته “قل لي يا أخي، من يرتكب جريمةَ مَن يَقتلُ نفسَه؟” وهي التي يكررها مرارا كاللازمة، فمضى يحفر في جينيالوجيا عائلته، وهي عائلة بورجوازية قال إنها يهودية، اندمجت في المجتمع الفرنسي منذ مطلع القرن العشرين، من طالماي دو توليدو إلى إستر والدة تيزي.
وراح بطل الرواية يستحضر تاريخ العائلة الذي تخللته مآسٍ كثيرة من فقدان أحد أبنائها في سنّ الطفولة إلى انتحار الابن الأكبر مرورا بموت ابن آخر في جبهة القتال في أواخر الحرب العالمية.
وبدل حياة ما بعد الحرب التي عقبتها سنوات من الرخاء والازدهار، لم تعرف هذه العائلة سوى المآسي والآلام، وهي الثيمة التي اتخذها الكاتب جوهرَ عمله، إذ يقول “الآلام، ذلك ما يقودنا ويوجّهنا، فهي تشكل مجتمعةً الوجهَ الآخر لهذا العالم الذي يؤمن بثرواته ونفوذه”.
غير أن بعض النقاد، كالناقدة كلير بوليان، نظروا إلى الرواية من زاوية السيرة التاريخية الموثَّقة، إذ رأوا أن تلك السيرة العائلية محرّفة، برغم الوثائق التي أدرجها في روايته (أرشيف يحوي نُسخَ مخطوطاتٍ وصورٍ فوتوغرافية وشهاداتِ ميلاد) وبيّنوا أنه من جهة أمّه يرجع نسبه في الحقيقة إلى أنطوان ريبو، مؤسس شركة دانون، وهو يساري من أسرة بورجوازية كاثوليكية من مدينة ليون، وكذلك الشأن من جهة أبيه، رغم أصول يهودية بعيدة من أحد أجداده الغابرين كان قدم إلى فرنسا من أندرينوبوليس بتركيا (أدرنة حاليا)، وهو الذي ورث عنه الكاتب اسمه دو توليدو. وما حديث الكاتب عن كون الحقيقة هنا “تكمن في تلك الجذور اليهودية، التي تكتّمت عليها العائلة” إلا قول باطل.
الحقيقة الخاصة
تتناسل الأسئلة: “هل نحن أمام سيرة ذاتية، يروي من خلالها الكاتب حياته على لسان شخصية متخيلة هي تيزي، أم أننا أمام جينيالوجيا عائلية أقرب إلى الأسطورة، فيها من الزيف فوق ما فيها من الصدق؟ وهل ننظر إلى الرواية كعمل تخييلي، رغم ما فيها من عناصر ذاتية، أم نحاسبها كسيرة فنتوقف عند مواطن الائتلاف والاختلاف في ما نعرفه عن الكاتب؟”.
الجدل صار يحوم حول البحث عن الحقيقة في الأدب بعد أن تبنّى أغلب الكتاب السردية التوثيقية
لقد فسّر دو توليدو اختياره هذه السردية التوثيقية بتراجع الرواية في شكلها التقليدي، وبكونه يبحث عن أدب له قوة السردية وتوهجها مع حق الانزياح نحو التخييل، لأن سرد الأحداث والوقائع كما هي قد يصدم المتلقي، ولذلك فضل التحاور مع الموتى لخلق نوع من الانزياح. ويقول في موقف المدافع عن مسعاه “أرفض أن يُنظر إلى الواقع كحالة مدنية. لأن الواقع عندئذ سوف تحدّده الدولة. وهذا أمر إشكاليّ كبير”.
كل ذلك لأن النقاد، أو جلّهم، تعاملوا مع هذا النص كوثيقة تاريخية، فراحوا يفتشون فيها عن الحقيقة، أو مدى مطابقة محتواها للحقيقة، وتناسوا أن الأدب، حتى ما اندرج منه تحت خانة الواقعية، يقترح وهْم الواقع.
قد نحاسب الكاتب على عناصر ثبّتها الواقع الجغرافي والتاريخي، فلا نقبل أن يُحلّ برجَ إيفل مثلا محلّ برج بيزا، أو أن يجعل بونابرت هو من شيّد قصر فرساي، أو أن يورد مخترعات وصناعات لم توجد بعد في الزمن المسرود، أو يخطئ في وصف معالم شهيرة، ولكننا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحاسبه إذا أجرى الأحداث على نحو يخالف الواقع الاجتماعي الذي يتحدث عنه ولو كان لتلميع صورته، فكبار الكتاب قبله، من روسو إلى أندري مالرو ومارغريت دورا، مرورا بشاتوبريان وألكسندر دوما، حرّفوا الحقيقة الاجتماعية ليستأثروا بالدور الأجمل. لأن الرواية لها حقيقتها الخاصة، ولا يحاسب الكاتب إلا على مدى صدقها الفنّيّ.