الأبيض والأسود: نص بصري عار إلاّ من الجوهر

الصور بأسودها وأبيضها تبقى الأكثر صدقا وإلحاحا في التركيز على معنى الحادثة أكثر من الالتهاء بشكل البوسطة.
الثلاثاء 2019/12/10
سيارة مهترئة خاضعة للنسيان

“لديك الحق في أن تبقى صامتا، أي شيء يمكن أن تقوله من شأنه أن يُستخدم ضدك في قضاء المحكمة، لديك الحق في إحضار محام معك خلال فترة الاستجواب”. ما سبق ذكره هو “تحذير ميراندا”. من منا لم يسمع بهذه الكلمات الحقوقية التي يجب على الشرطي أن يتلوها على مسمع أي متهم حين اعتقاله؟

هذه الكلمات لم تُتل على بوسطة عين الرمانة، الشرارة الأولى للحرب اللبنانية حين “اعتقلت” بعد حادثة إطلاق النار المأساوية على من بداخلها، لتُستغل هي واسمها في شتى أنواع الابتكارات الفنية/ الاجتماعية/ الاستعراضية المُسطحة حينا، والغرضية الاستفزازية حينا آخر، وطيبة النية في أحيان أخرى.

تنقلت من مالك إلى آخر واعتبرت جلاّبة للشؤم، كما جاء على لسان والدة أحد أوائل المالكين “إن البوسطة لم تتلق الرصاص مرة واحدة فحسب. ففي كل معركة من معارك بيروت كانت لها حصة من الرصاص والقذائف”.

انتقلت البوسطة من مالك إلى آخر كوباء مرصود ليقوم أحد المالكين بمقايضتها بصندوق شاحنة مع السائق سامي حمدان الذي انتقلت إليه ملكيتها، قبل نحو عشرين سنة.

أقسم حمدان أنه لن يبيعها وسيكون لها مكان في متحف الحرب اللبنانية يوما ما. سامي حمدان كان محاميها الأول الذي حيّد “جسدها” عن كل التحولات الفولكلورية التي قد تتعرض لها.

أمام جولات “تشييء” ما تمثله البوسطة المسكونة بحياة تُستباح كل يوم بأسلوب مُختلف، وأمام إقصائها عن حقها في أن “تبقى صامتة، لأن أي شيء يمكن أن تقوله من شأنه أن يُستخدم ضدها”، حضر محام ثان لها، وهو فنان تشكيلي تولّى بريشته تحصين قصص تاريخها المتضاربة وصيانة ألغازها، ريثما يحين زمن المُكاشفة والكشف الحقيقي عن ملابسات حادثة انحرافها عن مسارها، والذي كان مصرّحا له في ذلك اليوم المشؤوم بأمر من شرطي سير ظل اسمه مجهولا إلى اليوم. هذا المحامي هو الفنان اللبناني أسامة بعلبكي.

إن أردنا أن ندرك تماما ما صنع الفنان حين رسمها بالأسود والأبيض في لوحة غلب عليها الحنين والكآبة في خلطة قاتلة لا يمكن أن لا تطال روح من تأمّل فيها، يجب علينا أن نعود إلى الصور الفوتوغرافية الأصلية المأخوذة لبوسطة عين الرمانة بالأسود والأبيض يوم الواقعة، والتالية لها التي توثّق مراحل اهترائها بين الأعشاب البرية التي نمت إليها كما تنمو على ضفاف وجدران قصر مسحور بشعوذات النسيان. فهذه الصور بأسودها وأبيضها تبقى الأكثر صدقا وإلحاحا في التركيز على معنى الحادثة أكثر من الإلتهاء بهيئتها المتمثلة بالبوسطة.

هنا، في تلك الصور الفوتوغرافية “غير الملونة” يلعب الأسود والأبيض دورا مفصليا في أن لا تكون الصور وصفية بقدر ما هي ذهنية تحليلية. ينسحب الأمر ذاته على مجموعة من لوحات بالأسود والأبيض لأسامة بعلبكي. لوحات سيطرت عليها درامية النص السردي المُباح بصريا في بوسطة مُتصدعة رُكنت في عزلتها إلى جانب من طريق مجهول ومُهمل.

تحيلنا لوحاته تلك إلى ما قاله يوما المصوّر العالمي إنسل أدامز “الصور الفوتوغرافية بالأسود والأبيض هي تجريدية بطبعها.. تحيد عن الواقع الملوّن، ولكن في حياديتها عنه هي شديدة الواقعية وتمتد بعيدا عن زمنها المحدود”.

وما الزمن غير المحدود الذي تشير إليه اللوحات الفنية والصور الفوتوغرافية الظاهرة بالأسود والأبيض، إلاّ زمن الاستقراء والمُساءلة والتمهل في إصدار الحِكم.

قدّم الفنان أسامة بعلبكي غير العمل الذي جسّد فيه بوسطة عين الرمانة أعمالا أخرى بالأسود والأبيض تكاد أن تكون منبعثة من هذا الشيء/ الحي الذي هو بوسطة عين الرمانة. سيارات وقافلات نقل أخرى لاقت مصيرا مُشابها لبوسطة عين الرمانة إما لتورّطها في حوادث أليمة أو في تآكلها داخليا لفرط ما تحمل، أو لهول ما تحمل، من ذكريات.

قال الفنان في إحدى المقابلات كلاما خطيرا “العمل الفني يعتمد على فهمي للعالم، ولكنه أحيانا يرتكز على غياب هذا الفهم”. ليس هذا إلاّ إقرارا بانفلات الصور الجمّة من معانيها وأهمية دور الفنان القلق في أن يستحوذ عليها ويكرّسها معلما قيد التأمّل والبحث.

نذكر من تلك اللوحات ما رسمه من سيارات محترقة في حرب العراق، ولوحة معنونة بـ“سيارة نافقة” في إشارة إلى سيارة محطمة متروكة على مفترق طريق جبلي، ولوحة “وثبة الموت” يصوّر فيها كلبا دهسته للتوّ سيارة.

براعة الفنان اللبناني أسامة بعلبكي في توظيف الإشارات البصرية المُفضية إلى العوالم الداخلية للمشاهد بعيدا عن الألوان، أبرزت نصه عاريا، إلاّ من جوهره. عاريا، حارقا كما في كلام المصوّرة والمفكرة سوزان سونتاغ، حين قالت “أنا عائمة في محيط من ألم، لستُ عائمة، بل سابحة، بشكل أخرق فظ، لكن لست غارقة، أشبه بأن تُدهَس بشاحنة، مضجوعا في الطريق، ولا أحد يأتي..”.

16