استقلال الأبناء بالسكن ليس عائقا أمام استمرار رعايتهم لوالديهم

غلاء الكلفة الاقتصادية للمسن المريض يجعل الاهتمام به في البيت أقلّ كلفة من نقله إلى مراكز رعاية المسنين.
الأربعاء 2020/02/19
كثافة في التواصل

لم تؤد التغيرات التي طرأت على التركيبة الديموغرافية للأسرة في تونس وسيطرة النمط النووي، وتقلّص الأسر الممتدة إلى أقلّ من الثلث، إلى تلاشي العلاقات بين الأبناء والآباء والأمهات بعد الزواج بل ساهمت في توطيدها.

تونس - رغم أن العائلات التونسية تطوّرت في اتجاه استقلال الأبناء بالسكن عند زواجهم إلا أن جلّ الدراسات بيّنت أن مساكن الأبناء لا تبعد كثيرا عن مساكن الوالدين، وأحيانا لا تفصل بينها إلا بضع دقائق من الوقت، كما أن العلاقات بينهم تتسم بكثافة التواصل.

وتقول لبنى القاطنة في حي مجاور لمنزل والديها “اتفقت مع زوجي أن أظل أرعى والدي بعد الزواج بحكم أن والدتي متوفية منذ أن كنّا صغارا، وتفاهمنا على أن لا يبعد منزلنا عن سكن والدي”.

وتضيف “لم يفكر والدي بعد وفاة والدتي بمرض السرطان في الزواج. وظل يرعانا أنا وإخوتي حتى أنهينا دراستنا. ومن المنطقي أن أظل في رعايته والاهتمام بشؤونه، باعتبار أنني البنت الكبرى.. لقد كان هذا اتفاقي مع زوجي وهو ما دوّنته في عقد الزواج”.

وتعدّ شؤون الأسرة أولوية في شواغل الشباب التونسيين، إذ تحتل حسب مسح اجتماعي المرتبة الثانية بنسبة 44.4 في المئة بعد وضعيتهم المالية التي احتلت نسبة 50.5 في المئة، كما بقيت رعاية الوالدين عند الكبر من أوكد واجبات الأبناء تجاه أبائهم وأمهاتهم إذ يرى 98.7 في المئة من الشباب أن هذه العناية منوطة بعهدتهم.

83.4 في المئة من المقيمين بمراكز رعاية المسنين في تونس ليس لهم أبناء و44 في المئة لم يتزوجوا 

ويؤكد الخبير في علم الاجتماع عبدالستار السحباني أن العائلة التونسية تطورت في عاداتها وتقاليدها. وواكبت بطريقة أو بأخرى التطورات الموجودة في العالم، وذلك إما عن طريق

المدرسة وإما عبر السياحة والهجرة وإما عبر وسائل الإعلام، لكنها ظلت عائلة تقليدية في ما يخص علاقاتها بالأبناء وفي ما يتعلق بالروابط الأسرية.

وتشير البيانات إلى أن 83.4 في المئة من المقيمين بمراكز رعاية المسنين بتونس ليس لهم أبناء وأن 44 في المئة لم يتزوجوا قط، وهو ما يدل على أن أغلبية هؤلاء يفتقرون إلى السند العائلي.

وحسب دراسة ميدانية، استطاعت جلّ الأسر التونسية أن تنجح في التوفيق بين أهمية استقلال الأبناء بالسكن وضرورة المحافظة على علاقات متينة معهم فساعدتهم على توفير الأراضي والعقارات بالهبات المالية والاقتراض ليستقروا بالقرب منها، وهي مساعدة حافظت في آن واحد على اللحمة العاطفية بين الفروع وجنّبتهم مشكلات المساكنة ومكّنتهم من رعاية والديهم كنوع من المكافأة على ما وفّروه لهم.

كما أن احتضان الأسر لأبنائها لفترة أطول بحكم تأخر سن الزواج جعل 50 في المئة من الرجال و28 في المئة من الفتيات المتراوحة أعمارهم بين 30 و34 عاما يعيشون داخل أسرهم في هذه السن، وهو ما سهّل عملية رعايتهم عن قرب لذويهم.

رعاية الأبناء لذويهم بعد الزواج مرتبطة باحترام الأسرة وحب الوالدين
رعاية الأبناء لذويهم بعد الزواج مرتبطة باحترام الأسرة وحب الوالدين

وتقول سماح مدرسة اللغة الفرنسية بمعهد ثانوي بإحدى محافظات الشمال الغربي “أبلغ الآن من العمر 38 عاما وأقطن مع والديّ المسنين. اخترت أن تكون وظيفتي في نفس البلدة التي يعيش فيها والديّ”.

ومن جهته يرى الدكتور الصحبي بن منصور المؤرخ والباحث في الحضارة الإسلامية أن الأسرة بما أنها النواة الأولى للمجتمع لا تشكّل جزرا منفصلة عن بعضها البعض داخل المجتمع، وإنما هي حلقة صغيرة في سلسلة أكبر ويرتبط بعضها مع بعض في شكل شبكة مترامية الأطراف جغرافيا في زمننا الراهن بخلاف العصور القديمة.

وقال بن منصور “ما يجرّني إلى هذا الحديث هو أن التأكيد على أن طبيعة الاجتماع البشري يقتضي تواصل الترابط الأسري الذي بقدر سلامته ومتانته يكون نسيج المجتمع بدوره متينا وسليما.. وأعني بالسلامة سلامة العلاقات الأسرية وتبعا لها سلامة العلاقات الاجتماعية”.

وأضاف لـ”العرب”، تبقى الإحاطة المعنوية لذلك والرعاية المادية ولو في شكل هدايا رمزية أو ذات قيمة لوالديه وهذا ما في يجد سنده في التشريعات وفي العادات والتقاليد المجتمعية وفي القوانين الوضعية.

فغلاء الكلفة الاقتصادية للمسن المريض يجعل الاهتمام به في البيت أقلّ كلفة من نقله إلى مراكز رعاية المسنين، كما أن إيواء أي من الوالدين بدار العجزة مازال يُنظر إليه على أنه إهانة في حقه وفي حق الأسرة في كل المجتمعات العربية.

ويقول السحباني “في الظروف الاستثنائية، وعندما يمرض الأب الطاعن في السن أو الأم، تجد العائلة نفسها غير قادرة على التكفل بعلاجه أو إيداعه مركز رعاية نظرا إلى ارتفاع كلفة المرض، كالزهايمر مثلا، فيتقاسم الأبناء فاتورة علاجه”.

الإحاطة المعنوية والرعاية المادية ذات قيمة للوالدين
الإحاطة المعنوية والرعاية المادية ذات قيمة للوالدين

ويضيف لـ”العرب” في المجتمعات الأخرى تبدو الصورة مخالفة لذلك تماما، حيث يكون نقل المسن إلى مركز رعاية خاص، وقد يقوم بعض الأشخاص ببيع منازلهم والانتقال إلى مراكز للرعاية”.

وخلص السحباني إلى أن تخلّي الدولة عن العائلة جعلها لا تفكر في الاستعانة بالدولة بقدر ما تلتجئ إلى التعويل على أفرادها، وبذلك يكون سلوكها تقليديا في التعامل مع أبنائها وفي تعامل أبنائها معها. فحسب السحباني، لم تعد الدولة توفر للفرد الأكل أو اللباس أو الرحلات الترفيهية أو نوادي التسلية بل فرطت في كل ذلك للقطاع الخاص. ومن جهتهم فسّر علماء النفس استمرار رعاية الأبناء لذويهم حتى بعد الزواج بالتربية على مجموعة من القيم منها احترام الأسرة وحب الوالدين وحب الإخوة والأخوات.

وقال أحمد الأبيض لـ”العرب”، “إننا نعيش فترة طغى فيها النموذج الغربي على العلاقات بين الأفراد وأصبحت الفردية السمة السائدة في التعاملات حتى داخل الأسرة الواحدة، لكن إذا تربى الفرد على احترام القيم وتقدير مفهوم الأسرة وحب الإخوة والأخوات وإذا أفاضت الأسرة على أبنائها كثيرا من الحب، فإن ذلك يولّد استمرار العلاقات الجيدة بينها وبينهم”.

وأضاف أن البعد وطول المسافة لا يمكن أن يكونا عائقا أمام رعاية الأبناء لوالديهم، فالحب الذي زرعته الأسرة داخل أبنائها من شأنه أن يقلّص المسافات بينهم عندما ينتقلون إلى العيش في مكان بعيد سواء للعمل أو للزواج.

21