استعادة الفقه المستنير كفيل بإنصاف المرأة.. إحياء الكد والسعاية نموذجا

الأزهر يعترف متأخرا بحق الزوجة في تقاسم تركة زوجها للحفاظ على حقوقها.
الأحد 2022/02/20
على المؤسسات الدينية العصرية في الدول العربية تصحيح المفاهيم

صنعت الدعوة إلى إحياء فتوى “حق الكد والسعاية” لحفظ حقوق المرأة العاملة، من قبل شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، الحدث في مصر وفي دول عربية، والتي تنص على إعطاء الزوجة نصيبا من ثروة الزوج عند الوفاة، إلى جانب نصيبها الشرعي من الميراث.

القاهرة - أحدثت دعوة الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر حول ضرورة إحياء “حق الكد والسعاية” من التراث الإسلامي نقاشا واسعا في مصر، لكونها تستهدف حفظ حقوق المرأة العاملة التي تبذل جهدا في تنمية ثروة زوجها.

لم يلتفت هؤلاء إلى أن العديد من الدول الغربية سنت قوانين منذ فترة طويلة للحفاظ على حقوق المرأة، وهو ما يعرف في الولايات المتحدة مثلا بالتوزيع العادل للثروة بعد الطلاق، وقننت مسألة توزيع الثروة بما يضمن الحفاظ على حقوق المرأة ضمن أطر مجتمعية صارمة لا تتهاون في هذا الحق، بصرف النظر عن كونها عاملة أم لا.

ومع أن المناصفة في الأموال معمول بها في الغرب منذ فترة، إلا أن إحياء فتوى قديمة كشف الغطاء عن خروقات تثير مشاكل دقيقة في بعض المجتمعات العربية، وتحتاج إلى رؤية عصرية تراعي التطورات الحالية وما يترتب عليها من إشكاليات.

ويقترح خبراء في مصر أن يخرج تشريع ينظم حصول المطلقة على جزء من أملاك زوجها شريطة إثبات أنه جمعها خلال علاقتهما معا، بغض النظر عن كونها عاملة أم ربة منزل، ويتم تطبيق ذلك على الحالات التي تتعرض فيها المرأة للظلم.

يعني مصطلح حق الكد والسعاية في الفقة الإسلامي حفظ الحقوق المادية للمرأة التي أسهمت في تنمية ثروة زوجها، والأسرة عموما، سواء أكان ذلك بعملها الخاص أو ببناء منزل لعائلتها أو ذمة مالية قديمة قبل الزواج شاركت بها زوجها، كبيع أرض أو ميراث والدها لتمنحه لشريك حياتها، كي يستثمر ويعمل ويوسع ثروته ويزيد دخله.

تقدير وتكريم للمرأة

عبير سليمان: إحياء مصطلح إسلامي يعيد للنساء حقوقهن المهضومة موقف يُحسب للأزهر، لكن عليه مواجهة الأصوات المتشددة

شرح مركز الفتوى بالأزهر مسألة الكد والسعاية للمرأة من عملها أو ميراثها أو ذمة مالية قديمة قبل زواجها منحتها لزوجها أو فتحت له حسابا في البنك، بحيث يقدر هذا المال كذمة مالية مستقلة للزوجة بعيدا عن الميراث ولا يحق للورثة مشاركتها، وإذا رحل الزوج ولا يوجد ما يثبت حق المرأة في الكد والسعاية يقدر بتقدير الزوجة.

قال شيخ الأزهر قبل أيام إن الحياة الزوجية لا تُبنى على الحقوق والواجبات، لكن على الود والمحبة والمواقف التي يساند الزوج فيها زوجته، وتكون الزوجة فيها سندا لزوجها لبناء أسرة صالحة قوية راسخة قادرة على التنمية والإسهام في رقي وتقدم مجتمعها، وتربية أجيال قادرة على البذل والعطاء.

واستقبل المجلس القومي للمرأة في مصر دعوة الطيب بترحاب وتأييد وإشادة واسعة، باعتبار أن الكثير من النساء هن الأساس في بناء الأسرة من مالهن الخاص، ويجب أن يكون لهن جزء من هذه الثروة مستقبلا إذا حدث شرخ في العلاقة بين الشريكين، أو توفي الزوج ولا يكون لها عائل.

وقد يحدث في بعض المجتمعات العربية أن يتوفى الزوج ويترك زوجة وورثة آخرين من غير أولاده، لأنه لم ينجب ابنا منها، أو أن يطلق الرجل زوجته، رغم أنهما تشاركا في جمع ثروة الأسرة، ثم تفاجأ المرأة في الحالتين بأنها بلا دخل ولا تستطيع الإنفاق على نفسها وأولادها، على الرغم من حقها في ذلك.

يترك الرجل الذي توفي أرملته شريكة لورثة، ربما لم تكن بينهم وبين مورثهم صلة، لمجرد أن الأم لم تنجب ولدا، بينما يترك الثاني طليقته كأنها لم تشارك في نجاحه الذي وصل إليه بدعمها ومالها، بالتالي لا تحل هذه الأزمة، وفق كلام شيخ الأزهر، إلا بفرض حق إضافي لها، مقابل كدها وسعيها.

أظهرت دعوة الأزهر أن التراث الإسلامي يتضمن مواقف وأفعالا وقرارات واجتهادات تكرس حقوق المرأة وتنصفها ضد ما تتعرض له من ظلم، وتعمد دعاة التقليل من شأنها طمس ذلك على مدى عقود لإقناع أتباعهم أن المرأة تابعة للرجل.

القياس على التراث

عبدالغني هندي: تفعيل إنصاف المرأة ومنحها حقها في حق الكد والسعاية يتطلب نصا تشريعيا بتعديل قانون الأحوال الشخصية

واستند الشيخ الطيب في دعواه إلى ما فعله الخليفة عمر بن الخطاب مع السيدة حبيبة بنت زريق التي كانت تعمل نسّاجة، أي تعمل في النسيج، وكان زوجها الحارث بن عمر، يتاجر في ما تنتجه زوجته من صنيعة يديها حتى اكتسبا مالا وفيرا.

وعندما مات الرجل وترك المال والمنزل تسلم أقاربه مفاتيح الخزائن، فنازعتهم السيدة حبيبة في ذلك، واختصموا جميعا إلى الخليفة الذي قضى لها بنصف المال وحكم بتوزيع النصف الآخر على الورثة، مع عدم إسقاط حقها من الإرث الباقي أيضا.

طُمس هذا الحكم لقرون طويلة ثم أعيد إحياؤه مجددا على استحياء، ويقول رجال دين إن الفقيه المالكي القاضي أحمد بن عرضون حكم بأن للمرأة النصف في مال الزوج إذا وقع طلاق أو وفاة، بشروط شرطها، وحدود حدها، ورأى أنه من الظلم ألا يعطى للمرأة نصيب من الثروة المشتركة حين حصول الطلاق أو الوفاة، تقديرا لجهدها الزائد الذي بذلته فتأخذ نصف الثروة عند الطلاق إضافة إلى نصيبها من الإرث من النصف الباقي في حالة وفاة الزوج.

بالاستناد إلى هذه المواقف التاريخية، يبدو ما دعا إليه شيخ الأزهر أخيرا ليس اختراعا أو اجتهادا، بل إعادة إحياء لتراث تم دفنه عمدا من قبل رجال الدين المعروف عن بعضهم العداء المطلق للمرأة ورفض تطبيق الحد الأدنى من المساواة لها مع الرجل أو إظهار جزء من مساعدتها له، رغم أن الحياة الزوجية قائمة على التشارك ويفترض أن يتم تعويض الزوجة عن سنوات كفاحها وسعيها مع شريكها وأسرتها، لتجنب قهرها بنفقة طلاق أو إذلالها لتتنازل عن حقوقها.

ترى أصوات نسائية في مصر أن العبرة ليست في إعادة إحياء مصطلحات ومواقف دينية ثابتة تكرس للمرأة حق الكد والسعاية، بقدر ما يستحق هذا الملف أن يُدرس بعمق وفهم لتطبيقه في هذا الزمن بطريقة تحفظ الحقوق الكاملة للمرأة، وسن تشريعات تجعل تطبيق هذا المفهوم أمرا واقعا، طالما أنه لا يتعارض مع أصول الشريعة.

قالت عبير سليمان، الناشطة في حقوق المرأة بالقاهرة، إن إحياء مصطلح إسلامي يعيد للنساء حقوقهن المهضومة موقف يُحسب للأزهر، لكن عليه مواجهة الأصوات المتشددة التي تشكك في مفهوم الكد والسعاية لمجرد أن هؤلاء شعروا بأن المرأة ستحصل على جزء من ثروة الرجل، كأن هذا مساس بالرجولة والنخوة.

وأضافت لـ”العرب” أن المرأة المعيلة في مصر تتعرض لظلم وقهر لا يستطيع الرجل تحملهما، مع أنها اجتهدت وكونت مع شريكها السابق ثروة تجعلها تعيش حياة كريمة وأولادها، ومن المهم مع نشر ثقافة تقاسم المرأة أموالها مع الرجل أن تتغير ثقافة المجتمع تجاه النساء ليدرك أن الإسلام دين دعا إلى حفظ حقوق وكرامة المرأة، ولم يجعلها تابعة أو بحاجة إلى وصاية، وأن قوة الرجل من دعم زوجته له، وليس العكس.

انتقائية متعمدة

Thumbnail

تؤكد دعوة الأزهر المتأخرة إلى الاعتراف بفضل وجميل المرأة على شريكها أن تحقير المرأة مجتمعيا ليس من صنيعة الدين، لأن دعاة التطرف هم الذين ينتقون من التراث المشكوك في صحته وقائع تكرس الحط منها لتغذية عقول الناس بأحاديث وفتاوى، لمجرد أنهم لا يريدون للمرأة أن يكون لها فضل على الرجل، ماديا أو معنويا، ولا حتى بالجهد والدعم والسعي لتغييره إلى الأفضل، في حين أن استمرار الاجتهاد الفقهي يمكن أن يعيد للمرأة كامل حقوقها المهضومة.

على المؤسسات الدينية العصرية في الدول العربية الدور الأكبر في تصحيح المفاهيم وفتح باب الاجتهاد وتقوية الثقافة الفقهية ونفض الغبار، والسماح بإحياء الماضي الذي يتواءم مع مقتضيات العصر الذي نعيش فيه، فقد يكون موقف واحد أو مصطلح واحد ما كفيلا بتغيير شريحة عريضة، كالنساء اللاتي يواجهن الإرهاق النفسي والوصمة المجتمعية والقهر المادي لأسباب مثل النقل الحرفي للتراث، مع أنه تضمن مبكرا نصوصا كفيلة بمناصفتهن مع الرجل.

برهنت دعوة شيخ الأزهر إلى حصول المرأة على جزء من ميراث زوجها طالما أنها سعت واجتهدت وخرجت لميدان العمل، على أن كل دعوات المتشددين، الذين حرّموا على النساء الخروج من المنزل للوظيفة والاستقلال المادي عن الرجل وتحريم تحركها دون إذن زوجها، إنما هي دعوات باطلة، ولو احتمت في فتاوى تراثية، فإذا كانت المرأة في الماضي ساعدت زوجها وهي جليسة في المنزل، فالزمان تغير والوظائف تطورت، ما يؤكد أن التحريم المطلق لأفعال المرأة هو نتاج جهل مطبق.

في شأن الكد والسعاية تحديدا لم يكن سوى بداية للاجتهاد المتحضر وإعمال العقل والمنطق في مواجهة تحالف سلفي يريد حرمان المرأة من الحد الأدنى لمساواتها مع الرجل، أقلها الميراث، ما يعني أن إعادة قراءة التراث بتفكير متعمق هي السبيل الأمثل لمقاومة التغيير الحاصل في شأن تكريس حقوق النساء بالمجتمعات الإسلامية، كمدخل لسن تشريعات توفر مظلات قانونية واضحة مناصرة وممكنة للمرأة لنيل حقوقها.

تفسيرات عصرية

 العبرة ليست في إعادة إحياء مواقف دينية ثابتة تكرس للمرأة حق الكد والسعاية، بقدر ما يستحق هذا الملف أن يُدرس بعمق وفهم لتطبيقه في هذا الزمن بطريقة تحفظ الحقوق الكاملة للمرأة
العبرة ليست في إعادة إحياء مواقف دينية ثابتة تكرس للمرأة حق الكد والسعاية، بقدر ما يستحق هذا الملف أن يُدرس بعمق وفهم لتطبيقه في هذا الزمن بطريقة تحفظ الحقوق الكاملة للمرأة

ترى أصوات ذكورية أيضا مناصرة لشيخ الأزهر أن الدعوة إلى حصول المرأة على جزء من ميراث زوجها أمر طبيعي، باعتبارها ساعدته في تكوين هذا المال بطرق كثيرة، فهي التي تقوم بتربية أولادها وعدم إرهاقه بالمنزل ليركز جهده في تكوين هذه الثروة، ومن دون مساندتها لم يكن يستطيع وحده أن ينجح أو تكون لديه مقدرة مادية، ثم إن المرأة العاملة بطبيعتها لا تستأثر وحدها براتبها ولا تبخل في دعم أسرتها.

وقال الإمام الطيب إنه سمع عن بعض الأعمال التي تقوم بها المرأة وتستحق معها تطبيق الكد والسعاية، ضاربا مثلا بزوجين يعملان في بيت واحد فيقوم الرجل بحراسة المنزل وتخدم زوجته السكان، ما يعني أن المال الذي يُكسب من هذا العمل يأتي بعرق الزوجة، فهي التي كونته رغم أن الزوج يعمل أيضا، وقد تعمل امرأة خادمة والزوج يجلس على المقهى، وليس من المنطق أن يأخذ وحده كل المال إذا طلق زوجته.

أمام هذه التضحيات ليس من العقل والمنطق والإنسانية أن تكون هناك 35 في المئة من نساء مصر، مثلا، معيلات، والنسبة الأكبر منهن لسن قادرات على توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لهن على وقع الشح المالي، وتقاسم أهل الزوج ثروته معها بعد وفاته أو أنها مطلقة ولم تحصل على حقوقها، حتى في النفقة الزوجية يحكم لها القضاء بمبلغ زهيد يكاد لا يكفي حاجتها وأولادها لأسبوع واحد، رغم أنها في الماضي القريب قدمت لزوجها كل ما تملك ثم خسرت كل شيء.

دعوة الأزهر المتأخرة إلى الاعتراف بفضل وجميل المرأة على شريكها تؤكد على أن تحقير المرأة مجتمعيا ليس من صنيعة الدين

ورأى عبدالغني هندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالأزهر، أن تفعيل إنصاف المرأة ومنحها حقها في حق الكد والسعاية يتطلب نصا تشريعيا بتعديل قانون الأحوال الشخصية، بحيث يتم منح مساحة للنساء لحفظ نصيبهن من ميراث الرجل، حسب طريقة وحجم الدعم الذي قدمته كل امرأة لشريك حياتها.

وأوضح لـ”العرب” أن حق الكد والسعاية لا يعطي المرأة نصف تركة زوجها، كما في الحالة التي حكم فيها الخليفة عمر بن الخطاب للزوجة التي كانت تنسج لزوجها ليبيع المنتج، لكن الحق الشرعي أن تحصل على جزء من الميراث حسب مساهمتها في السعي والمكسب الذي حققه الرجل، ومهما كان المبلغ فالعبرة أن الإسلام لم يقلل من شأن ودور وقيمة النساء، بل أقر بدورهن في المجتمع وكونهن أحد أهم أساسيات التنمية والركيزة التي تقوى بها الأسرة، وهذه قيمة الاجتهاد الفقهي المعاصر.

ما يُحسب على بعض رجال المؤسسة الدينية أنهم رفضوا منح الزوجة غير العاملة أو التي لم تساعد زوجها ماديا جزءا من تركته في حالة الطلاق أو غيرها، مع أنه لولا وجودها في حياته ودعمها له ورفع الأعباء المنزلية ورعاية الأبناء بدلا منه لما نجح ووصل إلى تحقيق الوفرة المالية، فقد تكون لا تعمل لكن منحته الذهب الخاص بها ليبيعه ويستثمر فيه، ثم يتم تطليقها بعد ذلك لتجد نفسها بلا سند مالي.

في بعض المناطق الريفية والشعبية بمصر قد تعمل المرأة في الأعمال الزراعية أو تستثمر في أعمال منزلية لتساعد زوجها، وهذا لا يُكتب ولا تدونه الأوراق الرسمية لتطالب به المرأة عند الانفصال، وهو ما يعزز أهمية وجود غطاء تشريعي ينظم حصول المرأة دون استثناء على جزء من تركة زوجها كحق شخصي بعيد عن الإرث الشرعي الذي كفله القانون وأقرته الشريعة الإسلامية، والأهم أن تدرك المجتمعات العربية والإسلامية كافة أنه ما من رجل ناجح إلا وفي ظهره امرأة تسنده.

17