استسلام الشارع يشجع الحكومة المصرية على إلغاء الدعم العيني

الدعم المالي بدل العيني يمكن أن يقابل في البداية بتفاعل لدى البسطاء ومحدودي الدخل، لكن مع الوقت سيجد المصريون أن الخطوة تطال فئة محدودة جدا، وأن هناك فئات أخرى ستتضرر منها. وقد تكون للحكومة مبرراتها الاقتصادية والتزاماتها الخارجية، لكن قرار التخلي عن الدعم العيني يحتاج إلى مراجعة.
القاهرة - تجاوزت الحكومة المصرية مرحلة جس النبض بشأن تحويل الدعم العيني على السلع والخدمات إلى نقدي، وبدت مطمئنة لرد فعل الشارع، وهو ما يفسر بدء الاستعداد لمناقشة قضية الدعم في جلسات الحوار الوطني، تمهيدا لرفع توصيات التطبيق الفعلي إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي قريبا.
وأعلن مجلس أمناء الحوار عقد أول اجتماع لاستعراض قضية الدعم النقدي، غدا الاثنين، وسيتم خلاله استعراض وإقرار الإجراءات المطلوبة لضمان مناقشة الملف من جميع جوانبه، وعلى نطاق واسع يضمن مشاركة جميع المعنيين من خبراء ومتخصصين وجهات سياسية ومؤسسات تنفيذية ومجتمعية.
ويحمل التسريع بمناقشة ملف الدعم وتحويله من عيني إلى نقدي وجود رغبة لدى الحكومة في كسر الحق المجتمعي المرتبط بهذا البند، انطلاقا من أن الأموال المخصصة لفاتورة الدعم ويستفيد منها حاملو البطاقات التموينية، إرث مطلوب إعادة النظر فيه، ليتحصل عليه من يستحقونه فقط.
ويستفيد قرابة 64 مليون مصري من الدعم التمويني على السلع الأساسية، بالتزامن مع أزمة اقتصادية معقدة تعيشها الدولة، حيث تخصص مبالغ مالية ضخمة في موازنة كل عام تجاوزت في الموازنة الحالية 134 مليار جنيه (نحو 3 مليارات دولار)، بالتوازي مع دعم نقدي لخمسة ملايين أسرة أخرى ضمن برنامج “تكافل وكرامة”.
ويقوم الدعم النقدي على أن تصرف الدولة مساعدات مالية شهرية ليشتري الفقراء المدرجون ضمن منظومة الدعم، السلع التي يحتاجونها، بعيدا عن قيام الحكومة بدعم أيّ سلعة أو تحمل فارق سعرها الحقيقي. وعكس استقبال المصريين الهادئ لتوجه الحكومة نحو الحوار الوطني لإقرار منظومة جديدة للدعم تمهد لتحرير أسعار مختلف السلع بما فيها الإستراتيجية إلى أيّ درجة وصلت حالة اليأس عند شريحة معتبرة من المواطنين، حيث بدت الأغلبية مستسلمة لما يتم التخطيط له من إجراءات قد تفرض المزيد من الأعباء.
ويخشى مراقبون أن يكون توجه الحكومة نحو إلغاء أيّ دعم عن السلع الأساسية مقابل منح الفقراء مساعدات نقدية بديلة، مقدمة لارتفاع قياسي في الأسعار، يشكل عبئا معيشيا على البسطاء، وسياسيا على النظام، لأن الأمور قد تخرج من تحت سيطرة الحكومة ويصبح الناس تحت رحمة التجار.
وتتحرك الحكومة في مسار إلغاء الدعم العيني واستبداله بالنقدي وهي مطمئنة لردة فعل الشارع، من منطلق أنها اختبرت صبر المصريين مرات عدة واقتنعت بأن البسطاء ليسوا دعاة ثورة، وطالما أن الدولة تواصل منحهم المقابل المادي مقابل إزاحة غير المستحقين من منظومة الدعم، فلن يغضبوا.
ويتمسك النظام المصري بكسر الحق المجتمعي المرتبط بالدعم السلعي الذي أرهق موازنة الدولة كي يتحرر من هذا القيد الجبري، تأسيسا على أن أموال الدعم لا تُحتسب في منطق الشارع على أنها إنجاز تقدمه الحكومة للفقراء، بل جزء من الإرث القديم الذي ورثه الناس من أنظمة سياسية سابقة.
ويعتقد معارضون لهذا التوجه أن السلع المدعومة للبسطاء تظل العمود الفقري الذي تقوم عليه الحياة الكريمة التي يفترض أن تستمر الحكومة في تقديمها، حيث تعاملت مع المأكل والمشرب كجزء من أولويات حقوق الإنسان، لكن منح الفقراء مساعدات مقابل تحرير كل السلع يعكس انفصالها عن الشارع.
وتعهد مجلس أمناء الحوار الوطني أخيرا بمناقشة ترتيبات ملف الدعم “بتجرد وحياد كاملين، ودون الميل لتطبيق أحد النظامين العيني أو النقدي، ليكون دوره توفير بيئة حوارية تتسع لمشاركة كل الآراء والمقترحات”، ما يعني أنه سيرفع إلى الرئيس السيسي توصيات غير ملزمة، لكنها معبرة عن وجهة نظره.
ويدافع السواد الأعظم من نواب البرلمان في مصر عن الدعم النقدي كبديل عن العيني، لأنه يُمكّن الحكومة من الوصول إلى الطريقة المثلى إلى المستحقين وينهي التلاعب في ملف الدعم والاستفادة من فارق السعر بين السلع المدعمة ونظيرتها في السوق الحرة، وهذا لا يعنى تقليص الدعم، بل ترشيده.
وأكد الباحث المتخصص في شؤون الاقتصادي السياسي كريم العمدة لـ”العرب” أن الدولة محقة في حوكمة الدعم لأنه يساء استغلاله، وهناك ضرورة ملحة لإعادة النظر في تلك الفاتورة الضخمة وتحديد مستحقيها بشروط صارمة بعيدا عن عبثية الصرف وشبكات التزوير، ليتم التركيز فقط على رعاية محدودي الدخل.
وكثيرا ما أعلنت هيئة الرقابة الإدارية، وهي أعلى جهاز رقابي في مصر، عن ضبط مسؤولين كبار وموظفين بارتكاب جرائم التزوير وتسهيل الاستيلاء على المال العام والرشوة، بإضافة مواطنين ضمن منظومة الدعم، لا يستحقون تلك الميزة، واكتشاف آلاف الأسر التي تتحصل على دعم دون وجه حق.
وجزء من تحفظ بعض الخبراء على التحول من الدعم العيني إلى النقدي أن الحكومة ليست لديها قاعدة بيانات حصرية لمن هم فقراء وأكثر فقرا في كل منطقة وإقليم مصري، وقد يكون هناك ظلم لبعض الفئات التي ستخرج من منظومة الدعم مع أنها تستحق وليست لديها مصادر دخل.
◙ التسريع بمناقشة ملف الدعم يعكس وجود رغبة لدى الحكومة في كسر الحق المجتمعي المرتبط بهذا البند
ويعيش قرابة نصف المصريين تحت خط الفقر، أقصى طموحاتهم أن يمرّ يومهم بسلام، ولا يطلبون من الحكومة سوى توفير الحد الأدنى من السلع الضرورية. وتعهد رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أن الفقراء الحقيقيين سوف يظلون تحت أعين الحكومة طوال الوقت، والمهم التأكد من استحقاقهم للدعم، وهو ما ستعمل عليه أجهزة الدولة المختلفة بإجراء حصر دقيق وصارم للتأكد من استحقاق الحصول على الدعم أم لا.
وتتمسك الحكومة بعدم استمالة البسطاء أي فصيل معارض أو تيارات مناوئة للدولة، لأنهم الأكثر قدرة على إثارة منغصات سياسية وأمنية إذا فقدوا الأمل في توفير الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، لذلك تتعامل معهم كأهم كتلة شعبية لتثبيت الأمن.
وتتوافق دوائر سياسية في مصر على أن تمسك الحكومة بترشيد وحوكمة الدعم خطوة تأخرت كثيرا، لكن الظرف السياسي وارتفاع منسوب القلق الشعبي لا يحتملان تحرير أسعار مختلف السلع مع تطبيق الدعم النقدي، لأن بعض متوسطي الدخل أنفسهم غير قادرين على سد احتياجاتهم الأساسية.
ويُؤخذ على الحكومة في مصر أن طريقة تعاطيها مع الشارع حول تصوراتها تجاه البسطاء مثيرة للشكوك، فهي لا تقوم بإشراك المستهدفين من أيّ قرار أو سياسة جديدة في الخطط المنتظر تطبيقها بما يقطع الطريق على خصوم الدولة لتصوير الأمر على أنها تتآمر على الفقراء وتتلاعب بهم.
وأضاف كريم العمدة لـ”العرب” أن الخطاب الرسمي المرتبط بملف الدعم يجب أن يقنع المستهدفين بأن التوجه نحو المساعدات النقدية يستهدف إقصاء غير المستحقين بما يوسع قاعدة الحماية الاجتماعية، وأن وضع قواعد صارمة يمنع سرقات الدعم لمصلحة الحكومة والبسطاء معا.
وأوضح أن التحول من الدعم العيني إلى النقدي يحتاج إلى حنكة وتوضيح كامل للصورة وآلية التطبيق، لمنع الخصوم من استغلال الملف لإثارة منغصات سياسية بغرض نسف المكتسبات التي حققها النظام في علاقته بالفقراء، ولا غنى عن تشجيع محدودي الدخل لدعم توجهات الدولة، لا الخوف منها.
ويظل التحدي الحقيقي أمام النظام المصري أن الظرف السياسي لا يسمح بالتحرر الكلي من القيد الجبري المرتبطة بالدعم، بقدر ما يستدعي الترشيد في حدود يقبلها الشارع ولا تثير الفقراء ويقدم لخصوم الدولة هدية مجانية في توقيت حرج، ما يفرض على الحكومة الكثير من الحنكة.