اختناق الفراشة وتخبط "إنانا" علنيا في معرض اللبنانية فاطمة مرتضى

إلهة الحب تعود لتصويب مسار الأمور المنحرفة باتجاه الذكورية.
الأربعاء 2022/02/02
إنانا تعود لتحرر المرأة من القيود الذكورية

هي إنانا لدى السومريين، وهي عشتروت عند الفينيقيين، وأفروديت في اليونان القديمة، وفينوس لدى الرومان، وهي أيضا عند الفنانة اللبنانية فاطمة مرتضى محور لوحاتها التي تنتصر للمرأة في وجه الفرد والمجتمع، وتعود عبر لوحاتها لتنثر طاقة كبيرة من الحب والجمال.

تقدم صالة “ل.تي” في بيروت معرضا للفنانة اللبنانية فاطمة مرتضى بعنوان “ارتقاء إنانا” وذلك حتى العاشر من شهر فبراير. ويشكل العنوان دعوة إلى التأمل ومفارقة على السواء في سيرة “آلهة سومرية” من بين اللواتي زخرت بهن أساطير بلاد ما بين النهرين (وبلاد أخرى، ولكن بصيغ وتسميات مختلفة)، آلهة انتظرت آلاف السنين حتى أظهرت تخبطها في معرض فردي لبناني ومعاصر للفنانة مرتضى أراد الإشادة بها وصفاتها التي لا لبس فيها فبلغ مرتجاه من ناحية وبتر أطرافها/شرايينها الجوهرية/الأثيرية من ناحية أخرى.

لا شك أنه من أصعب الاستحقاقات وأكثرها تحديا هو الكتابة عن معرض لا تستجيب إلى ميولك الفنية والتمسك بالرغم من ذلك بموضوعية قدر الإمكان وذلك كدرع واق منك ومن الأعمال المعروضة على السواء.

الكتابة عن أعمال مرتضى ليست بالعمل اليسير لأنه يحيلك، إلى جانب الفنية والحرفية العالية التي نمّتها الفنانة على مدى السنوات، إلى أفكار إن دخلت في عمقها فلن تخرج قبل أن يتخطى نصك عدد الكلمات المُتاح لها في مقال نقدي في صحيفة يومية.

لذلك نشأت منذ البداية الحاجة للكتابة بحذر لإيفاء المعرض حقه ولأجل تلبية رغبتك ككاتب من الانغماس قدر المُتاح في ما يقدم لك المعرض من تجليات بصرية لأفكار شائكة ومتشعبة قد تكون لم تستوف حقها.

شخوص متحولة

الفنانة تواصل تطوير نصها البصري المبني على فعل الحياكة إن كان بشكل فعلي أو بالخطوط التي تحاكي الخياطة

استمرت الفنانة مرتضى بتطوير نصها البصري المبني على فعل الحياكة إن كان بشكل فعلي أو بالخطوط المرسومة التي تحاكي الخياطة. كذلك استمرت في تشكيل شخوصها المتحولة، ولكن المحتفظة ببعض السمات الأساسية كالغرائبية المستمدة من الأساطير لاسيما تلك المتعلقة بمقام الأنثى وصلتها بالطبيعة.

ويضعك العنوان المُربك في حيرة من أمرك فهل المقصود به كما التعريب المباشر الموضوع باللغة الإنجليزية وهو “ارتقاء إنانا” أو هو “بعث إنانا” من أجدادها بعد موتها كما في الأسطورة حيت تعود من العالم السفلي، الذي لا يعود منه أحد، لتنشر السلام والحب وكي تعيد تصويب مسار الأمور التي انحرفت بعيدا لصالح الذكورية بصيغتها العدائية/المتعالية من جهة ولصالح الفساد السياسي من جهة أخرى.

بقيت الأنثى في لوحة الفنانة أسيرة الرغبة باستفزاز المُشاهد لاسيما إن كان ذكرا وأيضا تبني دور “الغولة”، أو لنقل “أم الهول” التي ستفترس كل من اقترب منها أو الفزاعة القدرية المحتوية لآلام العالم والتي تقمصت الموت كطريقة وحيدة للتعبير عن الحياة والتهديد بخسارتها على السواء ووصل هذا التبني حدّ الرضى والإقرار بما آلت إليه من حال فظهرت باللوحات في أوضاع استراحة واستجمام تريد بها انتحال صفة عدم الاكتراث بكل من قد يعترض عليها. ولكن هل هذه فعلا صفة من صفات إنانا “ملكة السنوات والأرض”؟

والشخوص في أعمال مرتضى الجديدة تبدو وكأنها تخطت مرحلتين ظهرتا في معارضها السابقة. فهي اليوم قد انتهت من رصّ جراحها وإفرازاتها حتى قاربت في ظهورها عالم الرسم الغرافيكي وكرست غوايتها المُلتبسة عبره. شخوص محقونة وبالغة التعقيد وغرائبية المظهر تبدو وكأن الفنانة جففتها جيدا تحت الشمس قبل أن تطلقها أو “تعلّقها” مهيمنة وغير نازفة في فضاء لوحاتها لتنشغل بحركات بهلوانية وخفّة لم تعهدها من قبل.

تبدو الفنانة وكأنها مازالت تمارس تقنيات جراحية في أجساد شخوصها (الذين اعتادوا الألم ودون حاجة إلى أي مادة مخدرة) ليس كرها بها أو من باب العدائية، ولكن من منطق من يصر على التمادي في سلخ طبقات المادة/ الجسد تلبية لرغبة دفينة في البحث عما هو ما غير قابر للتسلخ، أي جوهريّ وأثيري.

ومنذ بداية سيرتها الفنية آثرت مرتضى إظهار الجانب “الفظائعي” لـ”إنانا” في وجه الذكورية والفساد الاجتماعي والسياسي، فظهرت في ضمور أجسادها حتى تحولها إلى ما يشبه الجيّف وليس الجثث وفي العيون الغائرة، ونحول الأصابع (في حال كانت الذراع غير مبتورة) وفي رمادية الجلد البشري الذي بالكاد غطى أجسادها التي تعرضت إلى تنكيل شبه شعائري يجعل المُشاهد يتساءل إن كان هذا التنكيل قادما من خارج الأجساد أو هو قادم من داخله، أي أشبه بتنكيل ذاتي.

ترميم للنفس والجسد

آلهة ترتقي بالحب خارج الفضاء الفني
آلهة ترتقي بالحب خارج الفضاء الفني

انبثقت تلك المرحلة الفنية من معرض الفنانة الأول حيث ظهرت الأجساد المكتنزة والشهوانية عبارة عن أشلاء خالية من الحياة واظبت الفنانة على إظهار فعل التقطيب والتضميد الجراحي الفيزيائي والنفسي فيها والذي رممها شرّ ترميم.

كما جاءت الشهوانية المفرطة في العديد من أعمالها تلك وكأن المقصود بها هو صدم المُشاهد (المُشاهد الذكر أكثر من الأنثى) والتشهير بكل من وقف ضد المرأة وضد امتلاكها لجسدها. وربما أدى ذلك إلى مضاعفات عكسية أخرجت فيها الفنانة المرأة وحقها الكامل بالملذات التي يوفره لها جسدها من صفة “السطوع” الجوهريّ الذي أكثر مما هو جسدي، هو روحيّ. ويحيلنا هذا الكلام الأخير إلى نظرة محي الدين ابن عربي إلى المرأة وإلى بلاغة الفعل الجنسي المؤدي إلى التماس مع حقائق كونية والشرح يطول ولا يتسع له المكان هنا.

هذا الإهمال للأثيري/ الجوهريّ هو إهمال متعمد على الأرجح، وقد يكون ذلك نتيجة لتعرضه إلى لفحات مخربة أسفرت عن تحوله لفحم لم يتحول بدوره إلى ألماس، إذا جاز التشبيه. وقد ظهر ذلك في عدد من لوحات سابقة للفنانة وخلافا لمنطق المقولة الصوفية “ربما يكون الجرح الذي جُرحته، هو الثقب الذي نفذ منه النور إلى قلبك”.

ربما أن جوهر لم يلق حتى الآن ما يليق به من اهتمام من الفنانة. ولعل فكر ابن عربي في هذا المضمار بالذات لقادر أن ينقل مستوى رؤية الفنانة إلى حيز آخر ليس هو ببعيد عن معاني القوة التي دافعت عنها الفنانة. وإن كان “تحرر المرأة” هو شعار حق تبناه وأبدع في تقويض معانيه العالم الغربي فهو بالتأكيد لا يكمن إلا في الجرف الموحل المحاذي لتدفق نهر ابن عربي الصافي والأصلي.  نهر استمد قوته من مصادره الأولى قبل أن يحل البلاء المتمثل بالفكر الذكوري العدائي المبنيّ حصريا على الخوف الممتقع من المرأة وقوتها.

وربما كانت الفراشة الملونة التي رافقت يوما ما نساء لوحات الفنانة أملا كبيرا في أن “يكون الجرح الذي جُرحته، هوالثقب الذي نفذ منه النور إلى قلبك” وقد قالت يوما الفنانة عن الفراشة إنها “فكرة التحول، أو ربما الروح أو الرمق المتبقي، أو البشارة التي يحملها زمن ما بعد الموت. لكن الفراشة اختفت في أعمالها الجديدة.. ويا ليتها تعود”.

Thumbnail
Thumbnail
14