احذروا الكليشيهات

قبل عشرين عاما كنا في السنة الأولى من عمر موقع "ميدل إيست أونلاين"، أول صحيفة إلكترونية عربية، وبنسخة باللغة الإنجليزية. كنت المؤسس والموظف. بعد أن نشرت صحيفة "الشرق الأوسط" الغراء خبر الانطلاقة في يوليو 2000، صرت أتلقى طلبات توظيف. في البداية لم يكن ذلك ممكنا. ثم حصلنا على أول إعلان.
تقدم للعمل محرر من مصر. شاب ذكي وطموح. خلال سنة أو أكثر قليلا، انتقل من أصغر مؤسسة إعلامية هي "ميو" كما نختصر اسم ميدل إيست أونلاين، إلى أكبر مؤسسة إعلامية عالمية بالمطلق.
بعد تدريب بسيط على التقنيات، صار يحرر وينشر. صحفيا كان جاهزا. انطلق من مادة وكالات الأنباء وبدأ بتنويع العناوين وتلوينها. بعد فترة قصيرة، لاحظت تأثير الكليشيهات بالعناوين. "لا بد مما ليس منه بد: بقية العنوان". "رب ضارة نافعة: بقية العنوان". سألته، فرد أن الأمور هكذا في بلده وأن الكليشيهات جزء من الصنعة. كان حديث العهد بالعيش في الغرب ويتلمّس طريقه بصحافته واللغة. ولكن لأنه ذكي، فهم أن الكليشيهات تبقى كليشيهات، لا تفيد في شيء سوى الحشو المستهلك. من يومها تركها إلى غير رجعة.
بممارسة مهنة مسؤول في التحرير، سواء كمحرر أول أو مدير تحرير أو رئيس تحرير، تواجه مثل هذا النمط في تكرار الكليشيهات. الأمر لا يكون واضحا تماما كما هو حال "رب ضارة نافعة". ولكن أمثلة تبدو طبيعية جدا مثل "الحكومة السودانية تلقي الكرة في ملعب خصومها" و"اليمن على شفير الانهيار" و"التقشف يعمق الفجوة بين اللبنانيين" هي، برأيي، كليشيهات. ربما تكون أقل ركاكة أو ليست برثاثة "رب ضارة نافعة"، ويمكن لمن يكتبها أن يقول إنها نمطيات وليست كليشيهات، لكنها لجوء لتسخير "الكرة في ملعب" و"شفير الانهيار" أو "حافته" أو "تعميق الفجوة" من باب الاستسهال أو السلق الصحفي. في بعض الأحيان، هي معبرة تماما عن الحدث ولعل استخدامها شرعي ومنطقي. ولكن الاستزادة في الاستخدام حرقها، وجعلها مستهلكة.
الكليشيهات اللغوية جانب من جوانب تراجع الإبداع بشكل عام. هنا أريد أن أميّز بين التكرار المفيد والكليشيه. الكليشيه توظيف شيء من باب الاستسهال في مكانه أو غير مكانه. التكرار له دور يؤديه، مثل إيقاع موسيقي معين مثلا. تستطيع التمييز بسهولة في الألحان بين تكرار من بنية اللحن، وبين استعارة كليشيه من تنميط معروف. الكليشيهات البصرية أيضا سهلة الالتقاط ويمكن تمييزها بسهولة عن التكرار. التكرار صحي في التصميمات، مثل تصميم إطار صورة بموتيف مكرر، أو سلسلة أقواس في مبنى. الكليشيه هو أن تلزم مصمم مدخل كنيسة مثلا أن يضع مجسمات أو تماثيل لشياطين وملائكة، لأطفال مجنحين أو لعناقيد عنب.
أكتب وأحرر وأنا أراقب نفسي لكي أبتعد عن الكليشيهات. آخر شيء تريد أن تقع فيه هو تكرار لزوم ما لا يلزم. "لزوم ما لا يلزم" كليشيه أيضا.