اتجاه إلى "الصحافة البناءة" لزيادة هامش الحرية في مصر

خلط بين الهدف الحقيقي للصحافة الإيجابية والدعاية للحكومة، ونشر شعور كاذب بالسعادة يفقد الصحف ما تبقى من قرائها.
الاثنين 2018/07/16
الخط المتوازن يسمح بمساحة من التنفيس والحرية دون إغضاب الحكومة

القاهرة – دخلت العلاقة المضطربة بين وسائل الإعلام والحكومة المصرية نفقا مظلما، جعلت ممارسة العمل الصحافي مهمة عسيرة في ظل الممنوعات والمحظورات التي تتزايد يوما بعد يوم، ووجد الصحافيون أنفسهم أمام خيارين: إما البحث عن حل وسط للحفاظ على حرية تداول المعلومات وتجنب المضايقات، وإما اعتزال المهنة.

وألقى هذا الوضع مسؤولية مضاعفة على الصحافيين تقتضي منهم العمل على إنقاذ صحفهم من الإغلاق بعد تراجع التمويل وتدهور التوزيع، بالسعي للوصول إلى صيغة عملية تمكنهم من أداء مهمتهم بأفضل شكل ممكن، بينما اختار البعض أسهل الحلول أي الدخول في مصالحة مع الحكومة، بممارسة الرقابة الذاتية وتجنب الصدام مع الجهات الرسمية.

من جهتها، بدأت بعض الجهات الإعلامية في مصر، تبني مشروعا لعقد دورات تدريبية لصحافيين شباب لتدريبهم على أنماط مختلفة لممارسة المهنة، بينها تطبيق منهج الصحافة الإيجابية، التي تحرض على الأمل في نفوس القراء، وسط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.

ويقوم هذا المنهج على فكرة أنه ليس المطلوب تقديم أدق التفاصيل عن حادثة اجتماعية وبيان المعوقات والمشكلات التي تضمنتها، بل سرد الإجراءات التي اتخذت أو سوف تتخذ لمواجهة المحنة والإشارة إلى الأشخاص الذين يكافحون من أجل حلها.

وعلى سبيل المثال، ليس من المهم تقديم بيانات وإحصائيات عن عدد الأشخاص دون مأوى، بل تقديم تحليل عن الإجراءات المتخذة لإنهاء المشكلة الاجتماعية. وبعبارة أخرى الصحافة البناءة “قصة إخبارية عن كيف تساعد مجموعة من الأشخاص ضحايا كارثة إنسانية، من غير الاستغراق في تقديم أرقام عن حجم المأساة”.

ويختلط هنا الهدف الحقيقي للصحافة البناءة مع الأجندة السياسية للحكومة، ويؤكد صحافيون أن الفرق شاسع بين الإضاءة على نماذج ناجحة وإيجابية في المجتمع، والتركيز على الحلول وخطط العمل البناءة، وبين تجاهل الحقائق والتعتيم على المعلومات.

الفرق شاسع بين الإضاءة على نماذج ناجحة وإيجابية والتركيز على الحلول وبين تجاهل الحقائق والتعتيم على المعلومات

وأضافوا أن هذا المفهوم ستكون له انعكاسات سلبية وخطيرة في ظل انتشار المعلومات على مواقع التواصل الاجتماعي.

ويشير بعض الخبراء إلى أن هذه المدرسة سوف تتحول إلى الترويج لأجندة رسمية محددة سلفا، والتركيز على إنجازات الحكومة والمؤسسات التي تتبع لها، وربما تتحول إلى أداة لخلق دعاية، كما أن نشر شعور كاذب بالسعادة لا يحتمله الواقع سينعكس سلبا على الصحف التي ستفقد ما تبقى من قرائها.

وقد تخرج الصحافة البناءة عن مسارها، وتصبح بوقا أو مطبعة تابعة للحكومة، تنتج مواد إرشادية. كما حدث في التجربة الصينية التي تحولت فيها الصحافة البناءة من صحافة إلقاء الضوء وتقديم الحلول إلى صحافة تنشر البهجة الخادعة دائما.

ويرى خبراء أن تطبيق هذه المدرسة في مصر يضع العاملين فيها أمام معضلة صعبة، بسبب الفصل بين فكرة الصحافة التي تروج للحكومة وتلك التي تساعد في تقديم الحلول وتحليل القصة وليس نقلها فقط.

وتقول سهير فوزي، مدرسة الإعلام بالجامعة الكندية في القاهرة، إن الصحافة البناءة مازالت تشق طريقها في الكثير من دول العالم، ولم تثبت حتى الآن نجاحها في الخروج من كنف سيطرة الدولة وتنفيذ أهدافها الرئيسية التي اخترعت من أجلها.

وتضيف لـ”العرب” أن تطبيقها في مصر يواجه بالكثير من الخلط بين فكرة تقديم الحلول لمساعدة القارئ في فهم القضية، وبين السقوط في فخ دعم الحكومة وسير جميع الصحف في اتجاه واحد نحو تقديم أخبار إيجابية لتحسين وجه النظام الحاكم.

وحمل الصحافي على عاتقه مهمة الفصل بين الفكرتين من خلال فهم دقيق لطبيعة تلك المدرسة الصحافية، والذكاء في تحقيق خط متوازن يسمح بمساحة من التنفيس والحرية دون غضب الحكومة المهيمنة على غالبية المفاصل الإعلامية.

ويقول آخرون إن الحكومة المصرية تعتقد أن هناك أهمية لتقييد العمل الصحافي، اتساقا مع اتهامات تؤكد أن الإعلام لا يعمل على بناء الدولة ولا يلقي الضوء على الإنجازات، وأحيانا يتُهم بخدمة أجندات أجنبية.

ومع تطبيق الصحافة البناءة يصبح الطريق مفتوحا أمام الصحافيين في العمل بحرية نسبية، لأنهم يقطعون الطريق على اتهامهم بعدم الموضوعية، ويقدمون مزيجا من الرقابة والصحافة الإيجابية التي تقدم الحلول وتطرح المميزات مثل العيوب.

يذكر أن وصف “الصحافة البناءة” ظهر لأول مرة في بداية التسعينات من القرن الماضي، دون أن يأخذ شكلا جديا. ومع تأسيس أول مركز لدعم تلك المدرسة الصحافية في النرويج بقيادة أستاذة الإعلام بجامعة بنسلفانيا كاثرين  جيلدستند، والصحافية دانيلا باتيست، بدأ يتزايد الاهتمام به. وقالت باتيست إن مفردات هذه المدرسة تمثل طفرة في عالم الصحافة، وتنطوي على تغير شامل في آلية تطبيقها، وعرفتها قائلة “إنها سرد الحقيقة حول الخبر من خلال تقديم القصة كاملة مع حلول لها وتحركات الحكومة لحلها”.

وأضافت “نحن أضفنا عنصرا سادسا للأسئلة الصحافية الخمسة المعروفة، وهو ما العمل الآن؟ ما يجنب القارئ الدخول في متاهة التفكير في المشكلة المطروحة والحالة النفسية التي قد يعايشها الناس، في غياب الأمل في مواجهة المشكلة”.

18