إنجي أفلاطون فنانة الكائن الهش المأخوذة بكوجيتو ديكارت

الفنان هو من يستطيع أن يلتقط بالرسم شخصا يسقط من الدور السادس.
الأحد 2021/05/30
النساء قضية فنية

في الـ16 من أبريل ولدت وفي الـ17 من أبريل رحلت، ما بينهما خمسة وستون عاما من عمر الفنانة المصرية الراحلة إنجي أفلاطون، التي تعتبر من أهم الفنانات العرب، ومن أبرز التجارب التي رسخت منجزها خالدا في المدونة الفنية العربية والعالمية. ويحتفى بالفنانة لا فقط من ناحية تجربتها الجمالية وإنما كذلك من باب أنها كانت تؤمن بأن الفن فكر، وكرست جل أعمالها للفكر والفلسفة والانتصار إلى المهمشين سعيا إلى التحرر، وخاصة في ما يتعلق بالمرأة، حيث كانت من النسويات الرائدات، فكيف نجحت أفلاطون في المزج بين الفن والفكر؟ 

لا ينفصل الاشتغال في الجماليات والإبداع عن الفكر الفلسفي، وكل عمل لا يقوم على فكر هو عمل ناقص وانفعال لا تحظى جمالياته بفرصة للاستمرار أبعد من لحظتها.

وإيمانا بوحدة الفن والفكر انطلقت منذ مطلع القرن الماضي في مصر جماعة السريالية التي ناضلت بقوة ضد الفوارق الطبقية والمغالطة التاريخية وضد كل التلفيقات وكل التوريات، وفتحت أبوابا جديدة أمام الفن ليلتحم ببيئته ويخرج من برود الصالونات، ولعل أبرز التجارب التي ضمت صوتها لهؤلاء ولكنها كرست عملها الفني بأسلوب مختلف، المصرية إنجي أفلاطون.

فن يُفكر

لا يمكن عزل الفعل الفني عن فعل التفكير أو التفلسف في المعنى الأعمق، فكلا الفعليْن، أو لنقل الممارستيْن (الفن والفكر)، يسعيان إلى التعبير بطريقة خاصة عن الوجود والواقع والإنسان والعالم، والإجابة عن الأسئلة الفكرية الكبرى، التي تؤرق مضجعة الفرد المتأمل والمشغول بأسئلة الوجود.

نجزم بأن الفن أحداث مثلى للتفكير، إن لم يكن الفن في حد ذاته مُفكرا (art qui pense). لهذا لم يتوان فلاسفة مثل شوبنهاور ونيتشه وهايدغر وأرتور دانتو ونيلسون غودمان ودريدا وميرلو بونتي ورجيس دوبري، وأدباء مثل أوسكار ويلد وشارل بودلير وإميل زولا وأبولينير وجان كوكتو وأنتونان أرتو، عن الاهتمام بالفن وجعله منطلقا لصياغة رؤاهم وتفسير أفكارهم والتعبير عن مواقفهم تجاه العالم والوجود.

لهذا سيذهب نيتشه حد اعتبار الفن هو الوسيلة الفضلى لفهم أطروحته “إرادة القوة”، وسيعتبر شوبنهاور بأن الفن هو خلاصنا من الشقاء، بينما سيتحد كل من هايدغر ودريدا في القول إن “الحقيقة في الفن”.

 إن الفن امتداد لنسيج العالم، كما يقول ميرلو بونتي. من هذا المنطلق ستنبع الرؤية الفنية والوجودية والإنسانية، أيضا، للفنانة التشكيلية المصرية إنجي أفلاطون (1924 – 1989)، التي سعت أن تُنتج أعمالا تلامس الفكر والوجود، في تقاطع مع فلسفة ديكارت، وأن تعبر عن الإنساني باستحضار الجانب المستضعف والرهيف فيه، وتنحاز إلى الضعفاء والمهمشين والمستضعفين. لتعمل بالتالي، على فن يُفكر، فن غير منعزل عن التفكير الوجودي والإنساني.

الكوجيتو والتمرد

"أحلام المعتقلة" 1961
"أحلام المعتقلة" 1961

تبدأ أعمال إنجي أفلاطون إذن، من فعل التفكير والتفكير في الذات لتنتهي عندهما، وهي المؤمنة بالكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر إذن أنا موجود”؛ ومن هذه الأنا الداخلية الرامية إلى الإفصاح عن وجودها كانت حياة هذه الفنانة عبارة عن “تمرد”، إذ تقول في مذكراتها “ومن هنا أستطيع أن أقرر دون فخر، وأيضا دون تواضع، أن التمرد كان السمة التي لازمت حياتي”.

وهذا التمرد سيطبع سمات أعمال أفلاطون الصباغية التي تنتصر للفرد في هشاشته الباطنية في أقصى حالاتها، بما فيها تجربة الانعزال والعزلة والسجن التي تعرضت لها في مرحلة من حياتها. وقد أخذها تمردها هذا إلى الثورة على التعليم الأكاديمي للفن، إذ رأت بكون الفن يحتاج حرية كبرى من لدن الفنان للتعبير عما يخالجه، وعما يعتريه من أفكار بينما الفن الأكاديمي يجعل الأعمال، في نظرها، خالية من أي إحساس.

إلى جانب شغفها الفني وإبداعاتها الصباغية، آمنت إنجي أفلاطون بالعمل الميداني من أجل الدفاع عن حقوق النساء والمستضعفين، وهو ما نلمسه في كل أعمالها الفنية.

 وقد قادها تعلقها منذ الطفولة بالرسم، بعدما أنهت دراستها بالثانوية الفرنسية القلب المقدس الداخلية، إلى الالتحاق بكلية الفنون في جامعة القاهرة، في بدايات الأربعينات من القرن الماضي، مع أولى النساء اللواتي سيلجن في مصر والعالم العربي مجال الألوان والصباغة.

لكنها سوف تتأثر في مرحلة تعلمها للفن بمعلمها الرسام كامل التلمساني (1917 – 1972)، الذي عُرِف بأعماله الفنية ذات الصبغة الاحتجاجية والساخرة من الأعراف الاجتماعية في وقته. وهو الطابع الذي ستظل، بشكل كبير، مخلصة له، مع اهتمامها المتزايد بالشق الوجودي والفرداني، بالخصوص تلك الحالات النسائية المنعزلة والمستضعفة والمسجونة خلف قضبان الواقع والأعراف والأفكار المتداولة، التي تحد من حريتها كما رأتها أفلاطون.

 وهذا ما نلمسه في أحد أشهر أعمالها الصباغية المُعنونة بـ”أحلام المعتقلة”، 1961، حيث تبدو شخصية اللوحة شاردة تنظر بحسرة إلى النافذة التي تحدها عن الخارج قضبان حديدية، شبيهة بقضبان السجن العصية على الكسر، والتي مرت منها إنجي في فترة مهمة من حياتها، تركت آثارها عليها بشكل واضح.

جل أعمال الفنانة تجسيد لحالات السقوط في الانعزال والسجن في الضعف والقهر الاجتماعي وفي قعر الذات المظلمة

قادت دروس كامل التلمساني الفنانة إلى اعتناق الفن بقوة ومن ثم فتحت لها هذه العلاقة إمكانية الالتحاق بدائرة المثقفين المصريين آنذاك، على رأسهم الشاعر السريالي جورج حنين (1914 – 1973) لتتعرف على مجموعة الفنانين السرياليين المعروفة بـ”الفن والحرية” التي أسسها حنين في العام 1939، وكان من بين

هؤلاء الفنانين الذين شاركوا أفلاطون شغفها كل من الفنانين فؤاد كامل ورمسيس يونان ومحمود سعيد. وهو الأمر الذي جعلها تُخرج أفكارها إلى العلن، وتتمرد على وسطها الأرستقراطي دفاعا عن قضايا من رأتهم مستضعفين ومهمشين، خاصة النساء منهم.

هذا الشغف والاهتمام بالفن والثقافة قادها إلى نشر العديد من الكتب، بما فيها “80 مليون امرأة معنا” و”نحن النساء المصريات” في عامي 1948 و1949 على التوالي. وأما تعلقها بالفن السريالي فسيجعلها تُترجم الأحلام والكوابيس بطريقة حكائية كما هو واضح في  ثلاثيتها الشهيرة “الوحش الطائر” 1941، و”الحديقة السوداء” 1942، و”انتقام شجرة” 1943، وهي من أشهر لوحاتها السريالية.

ولم يقتصر اهتمام أفلاطون بالفن والرسم فحسب، بل تعلقت بقراءة الكتب في التاريخ والاجتماع والفلسفة والاقتصاد والأدب والموسيقى، ما جعلها تصقل موهبتها فكريا وتكون رؤية خاصة نحو العالم والذات البشرية التي اهتمت بقوة بالتعبير عنها صباغيا. هذا، إلى جانب شغفها بالسفر والترحال، إذ سافرت في منتصف الخمسينات من القرن الماضي إلى صعيد مصر، النوبة والواحات… لتستلهم العديد من مشاهد الحياة اليومية في الريف، حياة الكادحين المصريين وبالخصوص النساء منهم. ما أغنى تجربتها الفنية، بين ما هو واقعي وما هو سريالي وتعبيري؛ في بحث دائم عن أسلوبها الخاص.

وكما تصف الكاتبة نادية رضوان تدرج أسلوب أفلاطون، فقد “تميّزت هذه الأعمال (أي الريفية) بإيقاعات ضربات الفرشاة الممتلئة التي تتلاعب مع فراغات القماش لتعبر عن الضوء. في الفترة الأخيرة من مسيرتها الفنية، في أواخر الثمانينات، أصبحت

ضربات الفرشاة الممتلئة أكثر صفاء بحيث تظهر بشكل تدريجي المزيد من الفراغات على القماش”. بينما “في أواخر فترة سجنها، تخلت عن الأسلوب الواقعي الاجتماعي وبدأت ترسم مواضيع ترمز إلى معنى الحرية، مثل الأشجار والمراكب الشراعية. وعقب الإفراج عنها في عام 1963، أصبح أسلوبها أكثر خفة ومرحا”.

السقوط في الفن

أعمال تلامس الفكر والوجود
أعمال تلامس الفكر والوجود

شكلت تجربة أفلاطون تجربة أساسية في تاريخ الفن التشكيلي العربي، وخاصة في بدايته الحداثية الأولى التي اهتم فيها الفنانون العرب بشكل عام بالأوضاع الراهنة في أوطانهم، وبالعودة إلى التراث والإنسان العربي للتعبير عن انشغالاته وهمومه وحالاته وبيئته ومعيشه.

وقد سعت الفنانة إلى تصوير الإنسان في حالاته الهشة القصوى، متأثرة بمقولة ليوناردو دافنشي “إن الفنان الذي لا يستطيع أن يلتقط بالرسم شخصا يسقط من الدور السادس ليس بفنان”. بل إنه لفي وسعنا وصف جل أعمالها على أنها تجسيد لحالات السقوط تلك، السقوط في الانعزال، السقوط في السجن، السقوط في الضعف، السقوط في القهر الاجتماعي، والسقوط في قعر الذات المظلمة.

عاشت أفلاطون حياة عامرة بالتمرد والنضال والفن والسعي إلى إبراز الحالات الدفينة للكائن البشري، العربي والمصري خاصة، والنساء بشكل أكبر، ما جعلها تحظى بتقدير كبير داخل وطنها الأم وخارجه، عربيا وعالميا.

وعلى إثر مسيرتها تلك تحصلت سنة 1985 على وسام “فارس للفنون والآداب” من وزارة الثقافة الفرنسية​. لتترك بعد رحيلها أعمالا تشهد على فنيتها وشغفها وحسها الإبداعي المتمرد على كل القيم الأكاديمية التي كانت سائدة حينها، من أجل التعبير بحرية عن معاناة المرأة وتجسيد الحالات الهشة للكائن البشري وهو يعبر هذه الحياة بكل معاناتها وقسوتها وفرحها وسعادتها. ما يجعلنا نلقبها بـ”فنانة المرأة والكائن الهش”، بكل ما تحمله هذه الكلمات من دلالات ومعان فلسفية واجتماعية عميقة.