إقرار منهج ديني موحد يربي الأجيال الجديدة على قيم المواطنة

تدريس منهج تعليمي موحد للمختلفين في العقيدة، من شأنه أن يعالج التشوه الفكري في المجتمع، ويجبر الأفراد على مراجعة أفكارهم، ويربي الأجيال الجديدة على الانفتاح على أصحاب الديانات الأخرى، ويقول مراقبون إنه المدخل الحقيقي لأن يعيشوا في بيئة اجتماعية وأسرية قائمة على المحبة والسلام والهدوء النفسي.
القاهرة - كشف استطلاع رأي لمجموعة مواطنين من كبار السن في مصر، حول فكرة دمج القيم والتعاليم الدينية المسلمة والمسيحية في منهج دراسي واحد، عن حجم التشدد تجاه الاقتراب من الهوية الدينية للمجتمع. لكن نفس الفكرة التي طرحت على مجموعة من الشباب قوبلت بترحيب واسع ما يبرهن على أن الأجيال الصاعدة أكثر تقبلا لأن يكون المجتمع متجانسا ولا تقوم المواطنة فيه على تصنيف الناس وفق انتماءاتهم الدينية.
يشير هذا الواقع إلى وجود فجوة كبيرة بين الأجيال القديمة والجديدة في المجتمع المصري، حول مفهوم المواطنة والتجانس وقبول الآخر. فكم أصبحت هناك فوارق شاسعة في نظرة الناس للدين، فالذين ظلوا سنوات يأخذون ثقافاتهم الحياتية والدينية من الجماعات الإسلامية والتيارات السلفية ما زالت تسيطر على عقولهم فكرة أن أيّ تجانس قد يقود إلى تدمير الهوية الوطنية، أما الفئات الشبابية، فهي أكثر اتزانا وترى أن التلاحم بين العقائد بداية لإنتاج مجتمع متحضر وعصري ومتسامح.
وأمام تراخي المؤسسات الدينية عن تجديد الخطاب الديني ونبذ التطرف والتشدد في المجتمع والإخفاق في وضع حد لتأثير التيارات السلفية على عقول الناس، لجأت الحكومة المصرية إلى اتخاذ خطوة جريئة نحو تكريس احترام الآخر ووقف التمييز والعنصرية بين أصحاب العقائد المختلفة، بوضع منهج دراسي جديد قائم على المواطنة، يدرسه طلاب المدارس المسلمون والمسيحيون معا، في خطوة تستهدف بناء مجتمع جديد فكريا وثقافيا، لا يفرّق بين الناس على أساس العقيدة.
وأعلنت الحكومة خلال الفترة الماضية، أن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، اتفق مع طارق شوقي وزير التربية والتعليم، على البدء في تدريس منهج ديني وطني لمختلف الطلاب، في مؤشر يعكس أن الحكومة قررت أن تتولى مهمة تجديد الفكر والخطاب الديني في المجتمع بدلا من المؤسسات الدينية، بحيث يتم البدء من المدرسة، ويصبح التعليم مؤسسًا لعلاقات أكثر إنسانية، طالما أن السلفيين اعتادوا استثمار الثقافات القديمة، وارتفاع منسوب الأمية المجتمعية، لبث أفكارهم المتشددة.
سيطرة التدين الظاهري
يُنظر إلى الخطوة، على أنها محاولة لاستقطاب الأجيال الجديدة في المجتمع، بعيدا عن بناء ثقافتهم الدينية من خلال الطقوس والعادات والتقاليد القديمة في المجتمع، عن طريق آباء وقعوا فريسة للتيارات الدينية قديما، بحيث يتم وضع حدّ لتوارث الأفكار المغلوطة حول أبجديات العلاقات الإنسانية، ويكون هناك بناء جديد للمجتمع قائم على فكرة المواطنة وقبول الآخر وإقامة علاقات اجتماعية بناء على مبادئ بعيدة تماما عن العقيدة.
وتأسّس التشدد داخل المجتمع المصري على أن الدين أصبح المتحكم الرئيسي في علاقات الناس مع بعضهم بعضا، وهو ما سمح للتيارات المتطرفة فكريا أن تجد لنفسها مساحة للنفاذ بين أفراد المجتمع، ورأت الحكومة أن غلق هذه الثغرة يكون بأن يصبح الدين مفردة، والانتماء العقائدي يكون خاصا بحياة الأفراد، لا مسيطرا على كل تحركاتهم وعلاقاتهم مع الآخرين، وليس على أساسه تُبنى العلاقات الاجتماعية.
وتبدو أن محاولة تغيير ثقافات الكبار داخل المجتمع بشأن هذه القضية ستأخذ فترة طويلة، وغالبا لن تكون هناك نتائج إيجابية، بحكم أن من تربّى على شيء فإنه يتخذ منه دستورا يبني عليه مسار حياته. لذلك لجأت الحكومة إلى البيئة المدرسية، التي تحتضن الأجيال الجديدة في المجتمع، لتبدأ من خلالها تغيير نظرة الناس تجاه الانتماء العقائدي، والعمل على كسر الجمود بين المسلم والمسيحي، ووقف الانتقائية والعنصرية والتمييز على أساس الدين.
ولا ينكر أغلب المصريين أن الريبة تجاه الأديان الأخرى، خاصة بين الإسلام والمسيحية، وجدت داخل المجتمع لجهل الناس بما تتضمنه كل ديانة من قيم وتعاليم إنسانية، ما دفع كل منتم إلى عقيدة بعينها أن يغلق على نفسه أبوابا يصعب اختراقها، فلا أحد يعرف عن دين الآخر شيئا، وكل طرف يعتبر أن عقيدته مثالية، وكل ما يخالفها أو يختلف عنها هو نقيضها، وأحيانا يعتقد بعض الأفراد أن أصحاب الديانات الأخرى مجرد دخلاء على المجتمع.
لا يعرف المسلم، متى وكيف يتعبد المسيحي، والعكس صحيح. ولا يدرك الطرفان متى يصوم الآخرون، وإلى أيّ مدى تتضمن الأديان السماوية أفكارا متقاربة في مسألة التسامح والتآخي والتلاحم، بل إن المتشددين هنا وهناك رسخوا لدى المجتمع أفكارا رجعية، على غرار أن مصر بالأساس بلد قبطي والمسيحية هي الأساس، ويرد الإسلاميون بأن عقيدتهم هي أساس التشريع وكل من يخالفها لا يستحق الحد الأدنى من الإنسانية.
لم تكن مناهج التربية الدينية، الإسلامية والمسيحية، بعيدة عن تغذية هذه الأفكار الرجعية في المجتمع. وليس أدل على ذلك من فصل الطلاب المسلمين عن المسيحيين أثناء تدريس مادة الدين، فكلاهما ينعزل عن الآخر في مكان مختلف، وشاب تلاميذ كل ديانة على فكرة العُزلة المجتمعية، حتى انتقلت إلى حياتهم الشخصية حتى لو كانوا يعيشون معا في برج سكني واحد، فلا أحد يريد الاقتراب من الآخر بحجة أنه يختلف معه في العقيدة.
ومع كل طرح لمسألة وجود منهج وطني للتعاليم الدينية كان الإسلاميون يحشدون الرأي العام لدحض التحرك في مهده، ويستخدمون أرباب الأسر الذين نشأوا على الأفكار القديمة لرفض الفكرة مهما كانت المبررات، ولأن الأنظمة السياسية المتعاقبة لم يكن يعنيها سوى الاستقرار وعدم إثارة قضايا جدلية قد تتسبب في غضب الناس، كان يتم التراجع عن الخطوة، ومع الوقت ترسخ لدى الأفراد أن كل المختلفين في العقيدة يستحقون الإقصاء من الحياة.
ولا يقبل الكثير من المصريين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، الاقتراب من المناهج الدينية أو حتى توحيدها بشكل وطني وإنساني، بغض النظر عن كون هؤلاء ملتزمين دينيا أم لا، لكنهم يعتبرون مجرد التطوير، استهدافا لدين بعينه. وتعكس هذه الفئة حقيقة راسخة عن هذا المجتمع بأن التدين الظاهر أصبح طاغيا.
الأخطر من الفئة المجتمعية الرافضة لوجود تلاحم دراسي بين الأديان هو وجود من يعتقد أن تدريس منهج ديني يؤسس للمواطنة واحترام الآخر، وأن ذلك يعتبر مدخلا لتكريس التحرر الديني، بمعنى أن يكون المسلم حرا في اختيار المسيحية، والعكس، وهو ما يبرهن على صعود الهاجس الديني داخل هؤلاء إلى مستويات قياسية، لدرجة بلغت حد التحريض ضد أيّ عمل من شأنه الاقتراب من كل ما يرتبط بالدين، حتى لو كان في صورة أن يجلس المسلم بجوار المسيحي في قاعة واحدة لتعليم منهج له علاقة بالعقيدة.
ترسيخ التسامح
قالت نوال شلبي، رئيسة مركز المناهج المصرية، لـ”العرب”، إن المنهج الوطني الجديد لا نية للتراجع عن تطبيقه على طلاب المدارس ابتداء من العام الدراسي المقبل، لمواجهة الأفكار المغلوطة التي تسللت إلى المجتمع، وأصبحت مدخلا لمن يريد بث الفرقة بين المختلفين في العقيدة، لافتة إلى أن مجرد تثقيف شباب أيّ مجتمع بما تتضمنه الديانات الأخرى من قيم نبيلة وعظيمة، كفيل بالقضاء على فكرة الإقصاء وبناء علاقات مجتمعية يصعب اختراقها.
وأوضحت شلبي أن كتب المنهج الوطني سوف تركز على القيم والتعاليم الدينية لمختلف العقائد بحيث يتم تثقيف أصحاب الديانة الإسلامية بما تحتويه المسيحية من محبة وتسامح واحترام للآخر، والعكس صحيح، حتى يكبر الصغار على نفس النهج ولا يتأثروا بالفكر المتطرف، من دون احتواء الكتاب الجديد على نصوص قرآنية أو إنجيلية.
صحيح أنه لن يتم إلغاء مادة التربية الدينية الإسلامية أو المسيحية، لكن لأول مرة سوف يجتمع طلاب الديانتين داخل حجرة واحدة وقت تدريس مادة القيم والأخلاق والمواطنة، بحيث يحصلون على ثقافة ديانتهم من كتاب الدين، ثم يجلسون معا ليعرف كل منهم ما تحتويه الديانة الأخرى من قيم إنسانية غير التي يروّج لها المتطرفون في المجتمع، حتى ينشأوا على أفكار جديدة ومغايرة لتلك التي تربّى عليها الآباء والأجداد، بأنه لا مفر من تباعد المسافات بين المنتمين للديانات.
ويرى مؤيدون للخطوة أنها تمهّد الطريق لمجتمع عصري ينبذ العنصرية والفرقة ويكرس الانسجام والتلاحم بين عناصره، وينتج جيلا جديدا أكثر وعيا بأساسيات المواطنة واحترام الآخر والتعايش مع أصحاب الديانات، بحيث يتعلم هؤلاء أنه لا علاقة بين الدين والعلاقات الاجتماعية، ومن الخطأ أن يكون التقارب وبناء الصداقات قائما على الانتماء العقائدي، لأن المؤمنين بهذه الأفكار لا يعيشون حياة سوية، وسلوكياتهم بعيدة عن كل ما هو إنساني. وتظل أزمة الرافضين لإقرار منهج ديني موحد للطلاب المسلمين والمسيحيين، أنهم يعتبرون المساس بهوية كتب التربية الدينية، أو دمج تعاليمها مع المسيحية، اعتداء على رمز إسلامي ظل لسنوات مبعثا للتفاخر والاعتزاز بالعقيدة، وبحكم أن الأغلبية السكانية مسلمة فيجب على المنتمين للعقائد الأخرى أن يكونوا هم أكثر معرفة بالديانة الإسلامية وليس العكس، بل إن هناك من يعتبر إبعاد الدين عن التعليم مدخلا للتلاعب بالهوية الاجتماعية.
هذه الإشكالية المجتمعية موجودة أيضا مع كل طرح لفكرة إلغاء خانة الديانة من بطاقات الهوية الشخصية للمواطنين. فكثيرا ما طرح نواب داخل البرلمان حتمية عدم كتابة الانتماء العقائدي للمواطنين في بطاقات الهوية، لكن ردود الفعل دائما ما تكون شرسة تدفع مجلس النواب للتراجع، بالرغم من أن استمرار هذا الواقع يكرّس التمييز والعنصرية والانتقائية، ويقضي على أيّ فرصة للمساواة بين أفراد المجتمع الواحد بغض النظر عن الديانة.
وتبدو الحكومة في مصر الآن منتبهة إلى ضرورة البدء في ترسيخ المواطنة والتسامح ونبذ التطرف الفكري، بعيدا عن المجتمع القديم، برموزه وأجياله وتياراته الإسلامية، ورأت أن إنشاء مجتمع حديث وعصري ومتحضر يبدأ لا محالة من “مجتمع المدرسة” الذي يشكل في المستقبل والقوام الأساسي للدولة، بحكم أن عناصر هذا المجتمع أكثر تقبلا لإزاحة الدين بعيدا عن حياة الناس.
استثمار في العقول
يقول محمد حلمي، وهو شاب قاهري ورب أسرة، إن تثقيف الأجيال الجديدة بقيم وتعاليم مختلف الأديان بداية لنشر التسامح والتعايش داخل مجتمع سيطرت عليه تيارات متشددة، لأن الشباب اليوم أكثر رفضا لأن تكون حياتهم أسيرة توجيهات دينية، فعندما يتعلم الصغار والمراهقون تعاليم الأديان، بغض النظر عن اسمها، يكبرون ولديهم قناعة بأن العقائد بريئة من الكراهية والإقصاء والتحريض والعنصرية.
وأضاف لـ”العرب”، أن أكثر من نصف المجتمع المصري من المراهقين والشباب، وهؤلاء الأجدر بالاستثمار في عقولهم وأفكارهم، ولأن هذه الفئة لا تحصل على الثقافة الدينية من المساجد، وفي نفس الوقت تعادي الإسلاميين، فإنه يمكن بسهولة تشكيل وعيهم من خلال المناهج الدراسية الوطنية لأنها تعاصرهم لأطول فترة من حياتهم، وبالتالي فإن الحكومة لديها فرصة أكبر لتحصينهم من الأفكار الملوثة التي تقوم على التآمر والنظر للآخرين بريبة.
ورأى محمد سعد، الباحث والخبير التربوي، أن تدريس منهج تعليمي موحد للمختلفين في العقيدة من شأنه أن يعالج التشوه الفكري في المجتمع، ويجبر الأفراد على مراجعة أفكارهم، ويربّي الأجيال الجديدة على أن الانفتاح على أصحاب الديانات الأخرى هو المدخل الحقيقي لأن يعيشوا في بيئة اجتماعية وأسرية قائمة على المحبة والسلام والهدوء النفسي، ومع الوقت لن يجد المتشددون لأنفسهم مكانا بين الناس، لأن المدخل الذي كانوا ينفذون منه للمجتمع، وهو جهل الأفراد بالديانات، أصبح مغلقا. وأوضح في تصريح لـ“العرب”، أن أصحاب التوجهات الدينية المتطرفة اعتادوا استغلال جهل المجتمع بقيم وتعاليم الأديان المختلفة، وفرض السرية عليها لتغذية عقول الأفراد بالكراهية والأفكار التآمرية والتحريض على العزلة والقطيعة، لكن مع التلاحم بين العقائد في منهج وطني يفنّد مزاعم المتشددين بمختلف انتماءاتهم، بأن هذا الدين، أو ذاك، يحض على البغض ولا يدعو للمحبة وينبذ الآخر، وبالتالي يقتنع الأفراد بأن الثقافات والمعتقدات التي أسسوا عليها مواقفهم الاجتماعية قديما، بنيت على خطأ.
حتى وإن كانت نتائج خطوة تدريس منهج وطني سوف تأتي بعد سنوات، فإنها كفيلة بزرع أفكار قائمة على التسامح بين العقائد، ويكفي أنها سوف تدفع الأجيال المعاصرة في المجتمع للتمرد على التشدد العائلي تجاه العلاقات القائمة على أساس الدين، ولن يكون الميراث الفكري والثقافي هو المسيطر بعدما تتفتت القاعدة المجتمعية التي تتشبث بالتعصب الديني، ويحل مكانها أفراد أكثر وعيا وعقلانية وإدراكا لحتمية التجانس بين عناصر المجتمع الواحد إذا أرادوا العيش في سلام.
ويقول مراقبون إن تلاحم الطالب المسلم والمسيحي تحت سقف واحد، لدراسة منهج ديني موحد، حتما سوف ينتقل إلى البيئة الاجتماعية، لكنّ الخطوة بحاجة إلى تحركات أوسع كي يسود الانسجام بين مختلف الأفراد. فهناك مؤسسات تعليمية أزهرية ما زالت تغذي الانتقائية والتمييز على أساس ديني، وجهات رسمية ترفض أن ينتسب إليها غير المسلمين، وبرامج دينية تكرّس العنصرية، وتيارات سلفية تجاهر بتكفير الأقباط، وهو ما يفرض على الحكومة أن تكون لديها إرادة سياسية لغرس الانسجام بين أصحاب الديانات، تفرضها على نفسها قبل أن تقنع بها المجتمع.