إقرار عقوبات بديلة عن حبس المتعثرين ماليا ضمانة لاستقرار أسرهم

سجن الأب أو الأم بسبب عدم دفع ما تخلّد بالذمة أضراره الاجتماعية أكثر من منافعه.
الخميس 2024/03/14
سجن الزوج المتعثر ماليّا فيه إذلال للزوجة

أقرت الحكومة المصرية استبدال سجن الأب أو الأم المتعثرين ماديا بإلزامهما بأداء أعمال ذات منفعة عامة وفق ضوابط وإجراءات سوف تحدد لاحقا، ما يعود بالنفع على الغارمين ويحفظ كيان الأسرة من الانهيار ويجنب الأطفال الوصم المجتمعي. وتتورط الكثير من الأسر عن غير وعي في استدانة مبالغ مالية لقضاء حاجتها ثم تعجز عن السداد لأسباب خارجة عن إرادتها.

القاهرة - أصبح البحث عن عقوبات تبعد الغارمين والغارمات عن الإيداع في السجن لأداء العقوبة مطلبا ملحا للكثير من المنظمات الحقوقية، لأسباب كثيرة تتعلق بالحفاظ على أرباب الأسر المتعثرين ماديا لظروف معيشية صعبة، والإبقاء على أوضاع عائلاتهم مستقرة من دون منغصات أو تصدعات مستقبلية.

ومع كل طرح للقضية تنادي أصوات حقوقية وجهات أسرية بإقرار عقوبات للغارمين، بأن يقضي الأب (أو الأم) المتعثر في سداد الدين فترة العقوبة بالعمل في حرفة أو جهة ما ليحصل على عائد مادي يستغله لسداد دينه، وعندما تنتهي العقوبة يملك خبرة العمل.

وحمل تحرك الحكومة المصرية مؤخرا بشأن إدراج عقوبات بديلة عن الحبس في ما يتعلق بالعثرات المالية انتصارا للغارمين، خاصة منهم النساء الفقيرات باعتبارهن الأكثر عددا، وسيتاح لهذه الفئة القيام بعمل ذي منفعة عامة عوض أداء العقوبة السجنية.

وتضمنت تعديلات قانون الإجراءات الجنائية المصري وجود نص يمنع الإكراه البدني والسجن لتحصيل المبالغ الناشئة عن التعثر أو التنصل من الحق المادي، مع استبدال العقوبة بإلزام المحكوم عليهم بأداء أعمال ذات منفعة عامة وفق ضوابط وإجراءات سوف تحدد لاحقا، ما يعود بالنفع أولا على الغارمين.

وأطلقت القاهرة إستراتيجية شاملة للإفراج عن الغارمين والغارمات داخل السجون بمبادرة من الرئيس عبدالفتاح السيسي عام 2018، لكن أزمة حبس المتعثرين ماليا لا تزال قائمة، واتخذت منحى تصاعديا في ظل الظروف المعيشية الصعبة واعتماد الكثيرين على استدانة مبالغ كبيرة.

إدراج الحكومة عقوبات بديلة عن الحبس تتعلق بالتعثر المالي مثّل دافعا معنويا هاما للمتخلفين عن تسديد الديون

ويتورط البعض من أرباب الأسر غالبا عن غير وعي في التوقيع على بياض نظير الحصول على مبالغ مالية لقضاء حاجتهم أو عبور أزمة اقتصادية مفاجئة أو شراء سلع ومستلزمات بالتقسيط ثم يعجزون عن السداد لأسباب خارجة عن إرادتهم، وبعد التعثر يجري تقديم المستندات التي تدينهم، ويتم حبسهم قضائيا.

وظلت المطالبة بالتوقف عن معاقبة الآباء والأمهات المتعثرين ماليا مطلبا على طاولة النقاش بين المنظمات النسوية والجمعيات الأهلية ونواب البرلمان والحكومة لعدم استفادة أي طرف من حبس الغارم أو الغارمة، لا صاحب الحق، ولا الدولة، ولا المتهم نفسه، والأسرة هي المتضررة.

من هؤلاء أسرة ليلى إبراهيم التي استدانت لتجهيز ابنتها للزواج، وبعد فترة تعثرت عن سداد الديون، حتى وجدت نفسها متهمة من صاحب المتجر في قضية “خيانة أمانة”، وتعرضت إثر ذلك للحبس لكنها خرجت بعد عدة أشهر، حيث تكفلت جمعية خيرية بسداد ديونها.

وقالت الأم لـ”العرب” إن “التعثر المالي الذي يدفع الأب أو الأم إلى السجن بسبب الاستدانة يجلب كوارث للأسرة، فما بين الوصمة المجتمعية والنظرة السلبية وتشويه سمعة الأبناء، تجد العائلة نفسها محاطة بسلسلة من الضغوط يصعب حلها، مع أن الظروف المعيشية هي التي تقود إلى التعثر”.

ويدعم نواب في البرلمان فكرة أن تكون العقوبات البديلة للمتعثر ماليا مرتبطة بأعمال تدر ربحا للمحكوم عليه، فإما أن يتعلم حرفة في مصنع أو مزرعة أو شركة تابعة للحكومة خلال الفترة التي يقضي فيها الشخص العقوبة أو يؤدي خدمة عامة في مكان تابع للدولة، المهم أن يبتعد عن السجن طالما لم يرتكب جرما.

ويرى متخصصون في العلاقات الاجتماعية أن أي عقوبة غير السجن لرب الأسرة الذي عجز عن سداد ديونه تحفظ كيان الأسرة من الانهيار، وتبعد الصغار عن تربيتهم داخل السجون خلال الأشهر الأولى من حياتهم مع أمهاتهم، وتوقف وصم المدينات بالمجرمات، ما يؤثر على سمعتهن وعلاقاتهن داخل البيئة السكانية.

ويسمح قانون العقوبات المصري الحالي للأم المدانة في قضية أن تصطحب طفلها داخل السجن حتى بلوغه عامين، وبعد ذلك يتم تسليمه إلى أقاربها، وإذا رفضوا يودع في إحدى دور الأيتام، وهي أزمة أخرى تواجه المتعثرات ماليا، حيث رأت الحكومة ضرورة أن يتم التعامل معهن بقدر من الرحمة والإنسانية مراعاة لظروفهن.

Thumbnail

وتزداد المشكلات التي تواجه المدينات عندما تصطدم الأم بحالة تنكر وتنصل عائلي من أبنائها الصغار، أو يتم رفض تجميع الأموال من أجل إخراجها من القضية التي تُحاكم بسببها، حتى تجد نفسها محبوسة مع قتلة وتجار مخدرات ولصوص، وهي النقطة التي كانت مفصلية ودفعت الحكومة إلى حماية المتعثرين ماليا.

وعكست وقائع كثيرة داخل السجون تحرك الدولة لعلاجها بمبادرات إنسانية، وأكبر أزمة تواجه الأم المتعثرة ماليا ترتبط بنظرة عائلتها إليها باعتبارها مذنبة، وليست ضحية فقر، حيث تصطدم بقسوة من المقربين إليها، ورفض مساعدتها على الخروج من المأزق وتركها تُحبس، وربما تصل العلاقة معها إلى حد القطيعة.

ويواجه الأب الغارم نفس الأزمة، فقد يُعاقب بالحبس بسبب التعثر المالي، ولا يجد العون والسند من أسرته في تجميع المبالغ المتعثر في سدادها لصاحب الحق، حتى يفرج عنه، ما يعكس معاناة المتعثرين ماليا من وصمات عائلية كانت بحاجة إلى تدخل.

ويجنب عدم تطبيق عقوبات بالحبس على الغارمين، رجالا أو نساء، أسرهم الدمار ويحصن أولادهم من الوصمة التي تطاردهم طوال الوقت، ويجنب المجتمع نفسه من ويلات احتكاك البسطاء بالمجرمين داخل السجون، فقد يتحولون إلى قنابل موقوتة.

وقال علاء الغندور استشاري العلاقات الأسرية في القاهرة إن “مشكلة رب الأسر الغارم ليست في قضاء عقوبة الحبس لمجرد أنه استدان وعجز عن السداد، بل يظل يعاني من وصمة مستمرة بعد خروجه من الحبس، وهو منهك نفسيا، خاصة إذا كان العائل الوحيد لأبنائه الذين أيضا يتوارثون وصمته، فالعقوبة تكون له ولأولاده أيضا”.

وأضاف لـ”العرب” أنه “أمام ارتفاع معدلات الفقر وانخفاض وعي الأسر عند الكثير من الآباء والأمهات محدودي الدخل تكون هناك ضرورة ملحة لتحصين هذه الفئة من الوقوع في براثن الاستدانة بتهور بعيدا عن تحميل هؤلاء مسؤولية فقرهم، والأولى احتواء المتعثرين ماليا بعقوبة تحافظ على عائلاتهم”.

وتتفق الكثير من الأصوات الرافضة لحبس الغارمين على أن علاج ظاهرة التعثر الأسري لا يكون بعقوبات بديلة، بقدر ما يتطلب تمكين العائلات الفقيرة اقتصاديا، بحيث تكون قادرة على جلب موارد غير تقليدية للأسرة، وهذا دور أساسي للحكومة، حيث لا يتم ترك هذه الفئة عرضة للاستدانة والتعثر طوال الوقت.

ومهما عدّلت الحكومة قوانين حبس المتعثرين ماليا من دون توعية الأسر البسيطة بخطر توقيع إيصالات أمانة، أو الاستدانة بما يفوق مواردها المالية، لن تنتهي الأزمة، ومن المهم تكثيف الخطاب التوعوي الموجه إلى تلك العائلات حول إدارة شؤون حياتها، وفق ظروفها المعيشية، مع توفير مساعدات للفقراء إذا تعرضوا لصدمات مالية طارئة بعيدا عن الاستدانة من الفئات التي تحترف استغلال أميّة البسطاء.

15