إعادة نشر مطبوعة نوعية تنعش ذاكرة مصادرات الصحافة

مطبوعة "شمروخ الأراجوز" حالة الحياة وشغب جميل شغل تسعين عددا في 13 عاما قبل التوقف عام 2015.
الاثنين 2020/08/17
الأب الشرعي لـ“شمروخ الأراجوز”

إذا مرت سنة، سنتان، عشر سنوات أو أكثر في بلد ما، ولم يشهد منع مقال لكاتب، أو ملاحقة صحافي بتحقيق إداري ينتهي بفصله، أو قضائي يؤدي إلى سجنه، أو حصار مطبعة ومصادرة مطبوعة وإعدام النسخ قبل توزيعها، فقد لا يكون ذلك كله دليلا على رسوخ قيم الحرية، وإنما علامة على “تعاليم” رقابية لا تسمح بمرور خطأ، وإذا وقع خطأ فيحظر نشره والإشارة إلى عقاب/ “مصادرة” صاحبه.

ويستمر الأداء الصحافي الحكومي والأهلي في مجرى واحد تحدده سلطة عليا، فلم يُعهد على سمك ميت إن خالف اتجاه التيار، وليس في مدن الموتى صوت مختلف عن صفير الريح وحفيف الشجر. وكانت مطبوعة “شمروخ الأراجوز” حالة الحياة، وشغبا جميلا شغل تسعين عددا في 13 عاما، قبل التوقف عام 2015.

“شمروخ الأراجوز” ابن شرعي للشاعر المصري سمير عبدالباقي. وإذا كان “الشمروخ” في اللغة هو الغصن الدقيق، فإن العامية المصرية منحته دلالة خشنة، وأطلقته على العصا الغليظة. وكان عبدالباقي قد أسس في بداية سبعينات القرن العشرين الفرقة المركزية لمسرح العرائس، وكتب وأخرج لها عددا من العروض.
وكان عبدالرحمن أبوزهرة هو الممثل الوحيد في عرض "حسن قرن الفول" الذي يقوم بطله الأراجوز بضرب الغافلين بعصاه الصغيرة. ثم رأى الشاعر أن عصا الأراجوز لا تكفي، وأن تنبيه هؤلاء يحتاج إلى “شمروخ” لمقاومة “الوالي والمملوك التركي والخفير واللص والفاسد”. هكذا ولد “شمروخ الأراجوز”، وكبر وسط المقاهي و”البارات” وعلى الأرصفة. وكنا نحبه، ونراه الابن المشاغب في العائلة، طفلا ذكيا خفيف الظل، يتعب فيميل إلى حجْر أي منا وينام.

حالة عصية على التصنيف الصحافي
حالة عصية على التصنيف الصحافي

على نفقته أعاد سمير عبدالباقي طبع أعداد “شمروخ الأراجوز”، فحفظها في مجلد بلغ 807 صفحات، وأنقذها من مصائر بائسة لمطبوعات صدرت ثم اختفت، وليس لها وجود في الأرشيفات أو دور الوثائق.

في عام 1996 نشر الشاعر المصري هشام قشطة الأعداد الكاملة لمجلة “التطور” التي أصدرتها جماعة الفن والحرية في مصر، وصدرت منها سبعة أعداد من يناير إلى سبتمبر 1940، مع التنبيه إلى أن “العدد السادس مفقود”. وبمناسبة إقامة معرض “حين يصبح الفن حرية: السورياليون المصريون 1938 ـ 1965” في قصر الفنون بدار الأوبرا بالقاهرة، أعاد طباعة المجلة من دون العدد المفقود.

وفي كتابه “صحف مصادرة في مصر حتى 1952” يسجل الباحث المصري هشام عبدالعزيز أسبابا متنوعة وغريبة لمصادرة الصحف والصحافيين منذ بدايات الصحافة في نهايات القرن التاسع عشر. في يوليو 1920 نفي الشاعر بيرم التونسي، وفي 19 سبتمبر 1921 نفي علي فهمي كامل وكيل الحزب الوطني وعطلت صحيفة “اللواء” ستة أشهر، بسبب نشرها تلغرافا بعثه كامل إلى الخديوي المعزول عباس حلمي الثاني، “تهنئة بالعام الهجري الجديد دون أن يرسل للسلطان فؤاد (الملك في ما بعد) تلغرافا مشابها”. وكان أمين الرافعي قد أصدر صحيفة “الشعب” عام 1913، وفي 27 نوفمبر 1914 أعلن عن توقفها اختياريا؛ لكي لا يضطر إلى نشر خبر إعلان الحماية البريطانية على مصر، وكان متوقعا صدوره. وصدر القرار في 18 ديسمبر 1914، وألزمت سلطات الاحتلال الصحف كلها بنشره، وفي اليوم التالي أعلنت بريطانيا خلع الخديوي عباس حلمي، وتنصيب عمه حسين كامل سلطانا على مصر.

ربما رأى سمير عبدالباقي أن تتوقف “شمروخ الأراجوز” اختياريا؛ بعد تغيّر المزاج العام، والاعتداء على مساحة محدودة للحريات كنا نحلم بتوسيعها، فإذا بها تضيق، وسط اكتئاب عمومي لا يحتمل الشغب الذي ينتمي إلى صناعة صحافية أسهم رواد شعر العامية في إرسائها. في عام 1899 أصدر محمد توفيق الأزهري ومحمد حلمي عزيز صحيفة أسبوعية هزلية ساخرة عنوانها “حمارة منيتي”، كانت تطبع أسبوعيا عشرة آلاف نسخة. ويرجح هشام عبدالعزيز أن توقفها عام 1904 يرجع إلى “أسلوبها السافر النقدي”، ويبدأ بشعارها الدال على أنها “جريدة هزلية أدبية مهلبية شلبية بنت كلبية جربندية أسبوعية”. وأدت السخرية إلى حبس رئيس تحريرها محمد أفندي توفيق، الذي كان ضابطا في الجيش المصري.

ونشط بيرم التونسي في إصدار الصحف منذ عام 1915، وفي عام 1919 أصدر “المسلة”، وفي تعريف لها أنها “لا جريدة ولا مجلة”، للتحايل على قانون يجيز سحب ترخيص الصحف والمجلات ومصادرتها. ولكن “المسلة” صودرت في سنة صدورها. أما الشاعر والكاتب المسرحي والسيناريست بديع خيري، صاحب المشاريع الفنية مع سيد درويش ونجيب الريحاني، فكانت صحفه تجد تضييقا من القصر والإنجليز، إذ صودرت صحيفة “الاستقلال” بعد ثمانية أعداد، أما “ألف صنف” فتعرضت للمصادرة أكثر من مرة، وفي العدد 161 الصادر في 19 أغسطس 1930 أعلن عن إصدار صحيفة جديدة عنوانها “النهارده” يومية سياسية، بعد تعرض “ألف صنف” للتعطيل في عهد حكومة محمد محمود “دكتاتور البرك والمستنقعات.. لتعود إلى الظهور على عهد دكتاتور الاقتصاد والنظام (إسماعيل صدقي)”.

 إلى تلك الأرواح الساخرة والحس الجمالي الانتقادي ينتمي “شمروخ الأراجوز”. وفكرة المطبوعة ـ كما قال عبدالباقي في حوار أجراه سامح قاسم ونشره في مقدمة المجلد على سبيل التقديم ـ جاءت مصادفة، بعد ارتكاب رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون لمذبحة جنين عام 2002، فكتب قصيدة “رسالة إلى شارون”، وصدّر بها العدد الأول المكتوب كله بخط اليد، وجاء في ثماني صفحات وثمن النسخة عشرة قروش كحد أدنى، وبداية من العدد الثاني أضيف النثر إلى الشعر، وحروف الآلة الكاتبة إلى خط اليد، وصار سعر النسخة ربع جنيه ومضاعفاته، مع الإشارة إلى أن حقوق الملكية الفكرية غير محفوظة، ويسمح بالنقل والنقد والتصوير.

صحيفة أسبوعية هزلية ساخرة
صحيفة أسبوعية هزلية ساخرة

“شمروخ الأراجوز” حالة عصية على التصنيف الصحافي، ليس مجلة، لأنه بلا غلاف، فالغلاف جزء من متن المجلة التي ليست مجلة، وتنتمي طباعتها إلى مجلات الماستر السائدة في سبعينات القرن العشرين. الشمروخ كما يعرّف نفسه “شكشكة شعرية غير دورية بالفصحى العامية”، شعارها “لا يحق لنا ما لا يحق لأهلنا”، وهي “نشرة شعرية مصرية على قد الحال. لا جريدة ولا جرنال ولا حتى مجلة. ومستقلة عن أي حزب وملة. عايشة بنفسكم مش بس بفلوسكم. والغاوي ينقط بطاقيته. وأهلا وسهلا بالأصدقاء زجالين وفنانين وشعراء”. ولأن عبدالباقي يعرف أن كثيرا من المثقفين لا يشترون كتبا، فكان يوزعها مجانا، ويرسل المئات من النسخ إلى الأصدقاء. ويرى اختلافها عن صحف عبدالله النديم صوت الثورة العرابية وبيرم التونسي وبديع خيري في تغيّر الظرف التاريخي، ففي الماضي كانت الأمور واضحة، العدو هو الاستعمار والاستبداد وفساد الأسرة المالكة، وكانت الصحف تنشر القصائد في صفحاتها الأولى، أما الآن فقد “أصبحنا كشعراء مزنوقين في حارة اسمها حارة الشعراء فيها يسمعون ويكتبون لبعضهم”.

تجاوزت “شمروخ الأراجوز” الطابع الرسالي للزجل، وأضاف عبدالباقي ـ الذي يستند إلى رصيد هائل من الشعر والأغاني والمسرح والروايات ـ قصائد تمزج الفصحى بالعامية، ويقول في مطلع إحداها:

ألا إني تعودت انكساري/ وأدمنت انحرافي عن مساري// نهارا تهرب العنزات مني/ وليلا يختفي عني حماري//.

وأضاف أيضا منمنات قصيرة، في صيغة حكمة، ومنها:

سايق عليك الوطن/ سايق عليك الأيام/ تقول لي سعره النهارده/ المتر منه بكام؟/ ما أتعسك شعب راضي/ بعسكره حكام/ خايف تبص لورا/ مرعوب تشوف قدّام/.

 وبمضي الوقت، ازداد عدد الصفحات إلى 12، وأضاف أبوابا منها “المضيفة” لنشر قصائد لشعراء معاصرين، أو مقولة لبيرم التونسي “لولا النقد لهلك الناس، ولطغى الباطل على الحق، ولامتطى الأراذل ظهور الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال”، أو رباعية ابن عروس:

مسكين من يطبخ الفاس/ ويريد مرق من حديده/ مسكين من يصحب الناس/ ويريد من لا يريده/.

 في مايو 2006، قابلني سمير عبدالباقي، في ميدان طلعت حرب، وسألني: وصلك العدد الجديد من الشمروخ؟

 كان العدد الثالث والأربعون تتصدره قصيدة "دعاء المغلوبين" عن حسني مبارك، فلم يصل، واحتفظ الشاعر بعدد من النسخ وأعطاني إحداها، ويقول مطلع القصيدة:

 عيش مبارك ألف عام/ محمي من الموت الزؤام/ ومن العَتَهْ ومن الفصام/ ومن الكساح ومن الزكام/ ومن الجرَب ومن العجَز ومن الجذام/ عاش مستقيم/ ومستديم ومستدام/ في ظل ورعاية المدام/ لحين يرجّع للوطن وجهه لأمام/ يغسل له جسده من العفونة والسخام/ يوصله لمجده القديم، يفك عن بطنه الحزام/ يعيش مبارك ألف عام/.

 اشمعنى بورقيبة، وكيم إيل سونج/ والمخفي فرانكو، والا أبوالهم السخام/ اشمعنى هو؟! بتنكروا فضله على حفظ النظام/ م البهدلة والحاقدين والمدمنين سقط الكلام/ من ربع قرنين أو يزيد شغال تمام/ آمون مبارك خطوته، ومراعي زنقة أزمته/ يحميه من السم الخفي في لقمته/ يرقيه من الكدب اللي بتدسّه الغباوة في كلمته/ ينْجيه من الغدر اللي في عيون اللي عايزين يورثوه/ ومن اللي عايزين بالحيا/ في قلة حياء يكفنوه/.

ومع صعود الإخوان المسلمين، عني الشمروخ بالدعوة إلى التخلي عن الاستعلاء الديني، والبعد عن الطائفية: “الدين لرب الفلق/ أما الوطن للكل”. حفل العدد الأخير، مارس 2015 بالكثير من الشجن، كأنه الوداع. ومما قاله عبدالباقي:

فخور بأني شيوعي رغم تكفيركم/ كفاني عشق لمحمد شرّ تفاسيركم/ هذا اليتيم الفقير الصادق المرحمة/ وصاحب الملحمة اللي خانها أكابركم/ حِسّوا الإيمان في العدالة.. تصحى ضمايركم/.

18