إسرائيل وإيران والـ"بينغ بونغ".. والضحية هو المواطن

بعد أيام من “الرد الإيراني” على إسرائيل من خلال ضربة عسكرية مباشرة عبر مسيرات وصواريخ، في محاولة لحفظ ماء الوجه عقب هجوم إسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال شخصيات إيرانية بارزة، تبدأ لعبة “البينغ بونغ” بينهما في التصريحات والتهديدات. وبنزول اللاعبين الأساسيين للميدان، دون محاولة استخدام طرف ثالث وطرق ملتوية، بشكل مؤقت.
المشهد الآن أشبه بطحن الماء واستهلاك لذات التهديدات المباشرة وغير المباشرة بين الطرفين، منها عنيفة اللهجة وأخرى قديمة وهشة، يرى البعض فيها محاولة لاستمرار مسلسل التصعيد وتعميق الأزمات.. وطرقا تضمن تحقيق مكاسب سياسية لكل منهما داخليا وعلى الساحة الدولية.
ربما! ففي سياسة “البلطجة” المتبعة من كليهما، يحاول كل طرف تحقيق نقاط إضافية لصالحه أمام الجميع.
لكن، يبدو للكثيرين أن السيناريو بات مملا ومتوقعا ومكتوبا بلغة ركيكة، والأحداث ليست بجديدة.
المسرح رث وقديم، والمبارزة معتادة. أشبه بصراعات في حلبات المصارعة المتفق عليها سلفا.
◄ كان على الشعوب أن تنال حقها في تقرير مصيرها والعيش في ظل مواردها وخيرات بلادها. وكان على حكومات دولها أن تفكر في خطط لمواجهة تحديات عديدة
فبالرغم من حجم التهويل والتضخيم الإعلامي والسياسي من قبل دول المنطقة والدول الغربية في إشارة إلى تصعيد محتمل أكبر.. ومخاوف من جر المنطقة لقعر الهاوية، إلا أن المشهد لم يعد مخيفا ومرعبا للكثير من المُتفرجين.
ففي الوقت الذي تعج فيه الكواليس في إسرائيل والولايات المتحدة بالنقاشات المحتدمة في حال كان يجب أن يكون هناك “رد” جديد بضرب منشآت إيرانية، بكيفيتها وتوقيتها، تجد المواطن خاصة في الشرق الأوسط يجلس على بقايا ركام. ففي غزة تمت إبادته وفي الضفة يتم ترهيبه، وفي دول أخرى تم إنهاكه عسكريا واقتصاديا.. وتم ضربه ثقافيا وفكريا وسلبه أمنه وسلامه. وفي دول أخرى يهرع المواطن ليل نهار يحاول النجاة من المأساة المستمرة والتي يضطر لدفع ثمنها باستمرار من جسده، وحياته وماله وأمنه. لذا، لا يبدو أن المشهد مخيف للكثيرين.
وفي تساؤلات عن احتمال جر العالم لحرب أوسع، يبدو أن طهران لا تحب المواجهات المباشرة، وتفضل دائما اللعب في مياه ليست مياهها، وفي ميادين أطراف ثالثة تبعد عنها أميالا.
طهران التي تستثمر في الخراب وفي أنقاض العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن، نجحت في بسط سيطرتها وقوتها في مفاصل كثيرة من تلك الدول، وتتحكم في مصير شعوبها.
دول لم يكن يوما من حقها على أي حال أن تغزوها وتنكل بواقعها. وإسرائيل التي لا تعرف العيش دون وجود “البعبع” والتي تتصرف اليوم كأنها شرطي العالم، تفعل ما تريد دون تقديم أي تبرير، تقتل من تشاء بذريعة محاربة تهديدات إيران. لعلها تحاول حماية مشروع إسرائيل، تحت عنوان “أنا ومن بعدي الطوفان”.. ثم تجد أطرافا داخلية أخرى تحاول حماية مشاريعها الخاصة، والنجاة بنفسها.
وبدعم كبير من دول عميقة وأخرى في الواجهة، ومن جهات ظاهرة وأخرى خفية، باتت إسرائيل تتسيد المشهد، لا أحد يقدر على منعها من فتح أي جبهات إضافية.
وطهران يبدو وجودها بتصنيف “عدو”، ضرورة وحاجة ملحة في نظام عالمي جديد قائم ظاهريا على تعدد الأقطاب، لكن كل وقائعه تقول إنه يُدار من قطب واحد ونخب واحدة اتفقت في عداوتها ضمنيا على تعزيز الحروب بينها، وعدم إنهاء الخصام.
◄ المشهد الآن أشبه بطحن الماء واستهلاك لذات التهديدات المباشرة وغير المباشرة بين الطرفين، منها عنيفة اللهجة وأخرى قديمة وهشة
فهذا العالم الجديد يحتاج أن يستثمر في الحروب، ربما لإبقاء مبررات وجود قواعد عسكرية للدول العظمى في مناطق أطراف ثالثة، أو لإبقاء تجارة الأسلحة سارية ومستمرة، وربما لإيجاد كل المبررات في العالم لدعم إسرائيل بشكل مستمر، وتعزيز الاستعمار الغربي والأميركي المستمر للدول سواء بشكل مباشر أو غير مباشر واستنزاف خيراتها وممتلكاتها.
والنتيجة، أن الضحية هو المواطن، والخاسر الأكبر هو الإنسان العادي الذي يتم التنكيل بأمنه وسلامه وهنائه، سواء في العراق أو في سوريا أو في لبنان أو في فلسطين. ولن ننسى الأردن ومصر المتضررتين بطريقة أو بأخرى، سياسيا واقتصاديا.
في منطقتنا يتم إلغاء مستقبل أجيال كاملة، وزج شباب دولها في حروب خاسرة وغير منتهية، وتقديمها قرابين لوهم جحيم لا يشبع، في وقت كان من المفترض الاستثمار في هذه الدول بتقديم خطط لتطوير حياة الإنسان المعاصر، بضخ الأموال في منطقة إستراتيجية حيوية، لازدهار التجارة والاستثمار، وتوزيع عادل للموارد بين المجتمعات.
كان على الشعوب أن تنال حقها في تقرير مصيرها والعيش في ظل مواردها وخيرات بلادها. وكان على حكومات دولها أن تفكر في خطط لمواجهة تحديات عديدة.. من انتشار المخدرات، إلى تأثير التغيرات المناخية مثل الجفاف، إلى مكافحة الجهل والتجهيل وتطوير مناهج التعليم، إلى التفكير في تأمين حياة محترمة للأفراد، وتغيير التشريعات والقوانين بما يضمن حقوقا أفضل للمرأة والأطفال.
لكن، بدلا من ذلك نجد أطرافا دولية لا شأن لها في هذه المنطقة، تقلق راحة الإنسان وتنكل بحاضره ومستقبل أجياله القادمة عبر مآسٍ متكررة، ومعاناة مستمرة يبدو أن لا نهاية قريبة لها.