إرث فنّي ثري يخلد مسيرة ذكرى محمد بعد مرور عقدين على رحيلها

رغم مرور عشرين عاما على وفاتها، لا تزال الفنانة التونسية ذكرى محمد حاضرة في الموسيقى التونسية والعربية حيث يؤدي مطربون أشهر أغنياتها، ويستعيدون سيرتها وتجربتها الثرية من حين إلى آخر عبر تكريمات وحفلات، في حين لا تزال قضية مقتلها غامضة وتحوم حولها شكوك كثيرة.
تونس- يمرّ الثلاثاء عقدان من الزمن على رحيل الفنانة التونسية ذكرى محمد الملقبة بـ”أميرة الطرب العربي”، تاركة إرثا فنيا وموسيقيا زاخرا بالنجاحات والأغاني الخالدة في ذاكرة التونسيين وكل محبيها من الوطن العربي.
بدأت الراحلة مشوارها الفني عام 1980 وساهمت في تقديم العديد من الألبومات الغنائية، حتى لقيت مصرعها في الثامن والعشرين من نوفمبر سنة 2003، عقب إطلاق النار عليها من قبل زوجها أيمن السويدي الذي انتحر بعد قتلها.
حس فني مرهف
ولدت ذكرى محمد في السادس عشر من سبتمبر سنة 1966 بمنطقة وادي الليل التابعة لولاية (محافظة) منّوبة (قرب العاصمة تونس)، وهي أصغر أشقائها الثمانية وهم توفيق، محسن، السيدة، سلوى، الحبيب، هاجر، كوثر ووداد.
وعرفت ذكرى بحسّها المرهف وبحنانها مما جعلها الأقرب إلى جميع أفراد عائلتها وأقربائها وحتى جيرانها، ثم انضمت إلى المدرسة الابتدائية في وادي الليل وبعدها انتقلت إلى ابتدائية خزندار أين أكملت تعليمها.
وبدأت الراحلة الغناء أثناء وجودها في المدرسة، وكان والدها يشجعها على ذلك، بينما لم تتقبل والدتها الأمر، كما كانت لها القدرة على أداء جميع أنواع الأغاني رغم صعوبة بعضها.
وشاركت سنة 1980 في برنامج المسابقات “بين المعاهد” بأغنية “اسأل عليا” للفنانة المصرية الراحلة ليلى مراد، وهي الأغنية التي شاركت بها بعد ذلك في برنامج الهواة “فن ومواهب”، وترشحت للنهائي حيث فازت بالجائزة الكبرى يوم 23 يوليو 1983 بأداء مبهر ورائع لأغنية “الرضا والنور” لأم كلثوم، فانتبه لذلك الملحن عزالدين العياشي الذي كان تذكرة دخولها إلى كورال البرنامج.
وفي سنة 1983 سجلت ذكرى أول أغنية من تلحين عزالدين العياشي “يا هوايا”، لتحظى بعد ذلك بفرصة اعتلاء مسرح مهرجان قرطاج العريق حيث أحيت أول حفل لها، وانضمت بعدها إلى فرقة الإذاعة والتلفزة التونسية بقسم الأصوات أين التقت الملحن عبدالرحمن العيادي الذي لحن معظم أغانيها في مرحلة لاحقة.
ولفتت الفنانة التونسية نوال غشام إلى أن “الملحن عبدالرحمن العيادي في الفرقة القومية هو من اكتشف صوت ذكرى في بداية الثمانينات”، مشددة على أن “ذكرى التي عُرفت بكرمها وطيبة قلبها كانت تملك صوتا مميّزا من الصعب أن يتكرّر، ولديها الكثير من التقنيات والخامات الصوتية”.
وتجمع الأوساط الفنية والثقافية في تونس على أن ذكرى تملك صوتا قويا وإمكانيات هائلة لأداء جميع أنواع الأغاني بما فيها القصائد والموشحات والأغاني الطربية.
وأشاد الملحن العيادي بذكرى، معتبرا أنها “من أجمل الأصوات التونسية والعربية، وبرهنت على ذلك في العديد من المرات”.
وقال لـ”العرب” إن “ذكرى عُرفت بمصداقية صوتها عندما كانت في المجموعة الصوتية للفرقة الموسيقية، وتوطّدت معها العلاقة الوجدانية الفنية في سنة 1986، وهي تنحدر من عائلة عريقة، حيث كان والدها مناضلا”.
وأشار إلى “الحسّ المرهف الذي كانت تمتلكه ذكرى في أداء الأغاني”، قائلا “سافرنا إلى سوريا سوية، أين أحبها الناس واختارت في ما بعد الانتشار العربي”.
وأوضح العيادي “نظمنا للفنانة الراحلة الذكرى السنوية الأولى بمهرجان قرطاج في 2004، بمشاركة العديد من الوجوه الفنية والعربية، فضلا عن الذكرى الخمسينية بمناسبة وصولها إلى سنّ الخمسين سنة 2016، وشهدت التظاهرة حضور فنانين مميزين مثل الراحل حسن الدهماني وألفة بن رمضان ومحمد الجبالي”.
ليبيا بوابة الشهرة
لحّن العيادي 28 أغنية من أصل 30 أدتها ذكرى في تونس قبل انتقالها إلى مصر، أشهرها “لمن يا هوى ستكون حياتي وكيف سأعرف ما هو آتي؟” و”حبيبي طمن فؤادي” و”إلى حضن أمي يحن فؤادي” و”ودعت روحي معاه من يوم ما ودعني”.
لكن مراقبين يقولون إن خلافا حصل بينها وبين عبدالرحمن العيادي عام 1990 بسبب احتكاره لصوتها ورفضه أن يقوم شخص آخر غيره بالتلحين لها، لذلك تركته وانضمت إلى مجموعة “زخارف عربية” وكانت هذه آخر محطاتها في تونس قبل أن تهاجر.
في العام ذاته، وأثناء تواجدها في المغرب، وافقت ذكرى على تسجيل عمل غنائي للفنان والملحن الليبي الراحل محمد حسن الذي كان يعد لسهرة مغاربية في الخيمة الغنائية جمعت نخبة من نجوم الوطن العربي وهم الفنانة فطيمة من المغرب، الفنانة المعلومة منت الميداح من موريتانيا، الفنان فتحي أحمد والفنان محمد حسن، ورافق الفنانين فرقة موسيقية مغربية وإيقاع الفنان الليبي محمد شعيب، وأخرج السهرة المغاربية محمد الهمالي وبثت مباشرة من الدار البيضاء في المغرب، وغنت خلالها ذكرى “عليا ادّلل”.
وقبل انتقالها إلى مصر اختارت ذكرى الذهاب إلى ليبيا لفترة، تعاملت خلالها مع عمالقة الفن الليبي مثل محمد حسن، والشاعر علي الكيلاني، والشاعر عبدالله محمد منصور، وسليمان الترهوني، ورمضان كازوز، وخليفة الزليطني، وعمر رمضان وغيرهم.
واختيرت ذكرى كأجمل من غنى النمط الموسيقي الليبي من فنانات العالم العربي وهي الفنانة الوحيدة التي تملك الألبومات الليبية الأكثر إلى اليوم، وغنت ألوان الغناء التراثي الصعب فأتقنته بجدارة حتى أنها كانت من مؤسسي سلسلة “رفاقة عمر” التراثية الرمضانية لمدة 16 عاما متتالية، ويقال إن آخر عمل قامت بتسجيله كان في ليبيا قبل ذهابها إلى مصر لتلقى حتفها هناك وليس كما يقول البعض إنه ألبوم “يوم ليك، يوم عليك”.
وفي ليبيا، أصدرت ذكرى العديد من الألبومات من بينها “وبحرت” و”شن درنالك”، وكانت أغنية “نفسي عزيزة” آخر إصدار ليبي لها في 2003، وهي من كلمات عبدالله منصور، وقد نالت الأغنية جائزة أفضل أداء وكلمات في مهرجان شرم الشيخ بمصر، بالإضافة إلى مشاركتها في نفس السنة في برنامج “رفاقة عمر”.
وأفادت الفنانة التونسية نوال غشام أن “مسيرة الراحلة ذكرى بدأت قبل مسيرتها الفنية بسنوات قليلة”، قائلة “عاينت نجاحها وتألقها في ليبيا وتونس، ورحيلها كان فاجعة لي ولمختلف الفنانين، حتّى أن الأمر وصل بي أحيانا حد الهروب من إعادة سماع أغانيها”.
وكشفت نوال غشام في تصريح لـ”العرب” أن ذكرى “كانت تغني في حفل خاص في سوريا أين التقت الملحن الليبي خليفة الزليطني الذي قدّمها في ما بعد للشاعر الليبي عبدالله منصور في العام 1987، ثم ذهبت إلى ليبيا سنة 1989 أين انطلقت مسيرتها هناك بأغاني ‘أبحرت’ و’الحبّ النقي’، ثم غنت أغاني ليبية مميزة جدّا، بالإضافة إلى أغان مصرية وخليجية”.
وتابعت غشام التي لها مسيرة طويلة ونجاحات فنية في ليبيا “مسيرة ذكرى انطلقت مع مجموعة من ألمع الأصوات التونسية في فترة الثمانينات والتسعينات ومنهم نجاة عطيّة، صوفية صادق، أمينة فاخت، وكذلك غازي العيّادي ومحمد الجبالي، وذكرى من الأسماء الخالدة في ليبيا، وغنت لكبار الملحنين والشعراء هناك على غرار الراحل محمد حسن وخليفة الزليطني وعبدالله منصور وعلي الكيلاني”.
مصر هي الختام
بعد مشوارها الغنائي في ليبيا انتقلت ذكرى إلى تونس وبعدها هاجرت إلى مصر لتبدأ منها شهرتها في الوطن العربي، والتقت هناك الملحن هاني مهنا الذي أنتج لها ألبومين، وهما “وحياتي عندك” في سنة 1995 والذي كان ألبوما ناجحا في الوطن العربي، بعدها أنتج لها ألبوم “أسهر مع سيرتك” في سنة 1996، لكنه لم يلاق النجاح المطلوب بسبب عدم توفير الدعاية اللازمة.
وقال المطرب التونسي محمد الجبالي “جمعتني بذكرى علاقة أخوّة وصداقة لسنوات طويلة، واستقبلتني في بيتها بمصر لمدة 3 أشهر، كما شاركتني في أداء أغنية ‘محتارين’ بكلمتين، وهي تملك صوتا قويا وتعتبر من المطربات القلائل اللواتي يتقنّ مختلف الأنماط الموسيقية”.
وصرح الجبالي لـ”العرب” أنه “كانت هناك فكرة لإنتاج أغنية ثنائية تجمعه بها”، قائلا إن الأغنية “من كلمات الشاعر حسن شلبي وألحاني، قبل تاريخ وفاتها بسنة، مطلعها ‘هذي الدنيا وأحنا معاها… كالريشة واخذنا هواها’ وكانت مبرمجة للتصوير، ثم أنتجتها بعد وفاتها في ما بعد وسميّتها ‘إلى ذكرى'”.
وأكد أن “ذكرى كانت بيتوتية وقليلة الفسحة كما أنها مسالمة جدا وتعرف بكرم الضيافة ومواقفها المساندة للفنانين، ومرحّبة بكل الأصوات الجميلة، كما يحسب لها الجانب الإنساني الجيد في المعاملات ومساعدة المحتاجين”.
وأشار إلى أنه “في المقابل لم تجد ذكرى من يبادلها نفس الكمّ من الحب والشعور، كما أنها لم تحظ رغم حبّها الكبير لبلدها بالاهتمام اللازم في تونس، على عكس ليبيا ومصر”.
وجعلت قوة صوت “أميرة الطرب العربي” العديد من كبار الملحنين في مصر يسعون للتعاون معها منهم صلاح الشرنوبي وحلمي بكر، وأصدرت هناك أعمالا فنية ناجحة منها “وحياتي عندك”، “مش كل حب”، “الأسامي”، “الله غالب”، “يا عزيز عيني”، “يوم عليك” و”بحلم بلقاك”.
وأصدرت الفنانة الراحلة في العام 2000 ألبوم “يانا” من إنتاج فنون الجزيرة، كما صدر آخر ألبوماتها باللهجة المصرية سنه 2003 تحت اسم “يوم عليك” الذي سبق موعد صدوره وفاتها بثلاثة أيام فقط.
كما أدت ذكرى أغاني باللهجة الخليجية، حتى أنها اعتبرت في وقت ما أفضل صوت عربي غنى باللهجة الخليجية، وقد تم اختيارها في عدة مناسبات كأفضل مطربة خليجية، رغم أنها تونسية الأصل، وحفز نجاحها الخليجي العديد من المطربين والمطربات العرب على إنتاج أعمال غنائية خليجية.
وغنّت أيضا العديد من الأغاني المشتركة (ديو) مع عدد من الفنانين الخليجين مثل طلال مداح في أغنية “ابتعد عني”، أبوبكر سالم في أغنية “يا مشغل التفكير” ومحمد عبده في أغنية “حلمنا الوردي” في سنة 2003 وديو مع الفنان عبدالله الرويشد في أغنية “ما فقدتك” صدر بعد وفاتها أواخر 2003.
اختيرت ذكرى كأجمل من غنى النمط الموسيقي الليبي من فنانات العالم العربي وهي الفنانة الوحيدة التي تملك الألبومات الليبية الأكثر إلى اليوم
وكانت أول مطربة تقدم ديو مع محمد عبده “حلمنا الوردي” الذي اختارها بدل المطربة نوال الكويتية، إذ طلبت نوال التغيير في طبقة اللحن وهو ما لم يستجب له المطرب محمد عبده واعتذر منها، ليقع اختياره بعد ذلك على ذكرى بدلا عنها.
وأصدرت ذكرى العديد من الألبومات الخليجية بينها “التلاقي” 1997، كوكتيل مع أصالة وأبوبكر سالم وأصيل أبوبكر “وش مصيري” 2003، كما صدرت بعد وفاتها أغنيتا “أعجبتني” 2004، و”تبقى ذكرى”.
وفي ليلة 28 نوفمبر 2003 تمت إذاعة خبر مقتلها على يد زوجها أيمن السويدي الذي انتحر هو الآخر، لتترك بوفاتها مسيرة فنية حافلة بأعمال تعكس نجاحات 23 عاما من التميز، ولتترك أيضا لغزا ظل إلى اليوم محل سجال، إذ رغم أن السلطات المصرية أعلنت أن زوجها هو من قام بقتلها وقتل مدير أعماله صحبة زوجته بسلاح ناري قبل أن يقتل نفسه تحت تأثير الخمر، فإن الشكوك لا تزال تحوم حول تلطخ أياد مجهولة بدماء الفنانة التونسية في جريمة طالت الحاضرين بشقتها آنذاك.