إرث ثقافي ضخم يعاني الإهمال في الجزائر

لم تعد الثقافة ذاك القطاع الهامشي الذي يعتاش على ما تقدمه الدولة من دعم، بل باتت بكافة تفرعاتها مجالا تنمويا هاما، وبتنا نتحدث اليوم عن الصناعة الثقافية ودورها البارز في ازدهار حياة الشعوب والدول، لكنها ما تزال قاصرة في البلدان المغاربية على غرار ما نراه في الجزائر.
الجزائر – لما سئل الرئيس الجزائري في آخر تصريح له للإعلام المحلي عن خلفية الاستغناء عن وزارة الصناعة السينماتوغرافية والإنتاج الفكري، برر ذلك بعدم تحرك القطاع وفق السياق الذي استحدثت من أجله، الأمر الذي يعكس اعترافا من الرجل الأول في الدولة بتعثر خطة حكومته في إرساء قواعد صناعة ثقافية، رغم أنه لم يفقد الأمل تماما في ذلك، لما ختم تصريحه بالقول “سأبقى خلف المشروع إلى أن يتم بعثه”.
أولت حكومة عبدالعزيز جراد منذ تنصيبها في 2019 أهمية قصوى للصناعة الثقافية، على أمل أن تكون موردا للاقتصاد والإنتاج المولد للثروة ولليد العاملة، وتجلى ذلك من خلال إطلاق وزارتين موازيتين للوزارة الأصلية “الثقافة”، وتعلق الأمر بالصناعة السينماتوغرافية والإنتاج الفكري، إلا أن الملاحظ أن المسألة تتعدى حدود الهياكل والإدارات والكوادر البشرية، إلى ذهنيات متراكمة ولمناخ خاص لم يتخلص من ترسبات الريع والوصاية.
محاولات الإصلاح
يرتكز المخطط الحكومي لإرساء مشروع الصناعة الثقافية في الجزائر على أربعة محاور تتمثل في هيكلة النشاطات والتكفل بالتراث والشخصيات الثقافية ودعم التمثيل الجزائري دوليا. كما شدد على ترشيد النفقات العمومية في تنظيم التظاهرات الثقافية، وتشجيع الاستثمار في مجال الثقافة، لأجل بروز الصناعات الثقافية، ونوه بالتقدم في مجال صناعة الكتاب.
غير أن المشروع الذي مر على إطلاقه أكثر من عامين، لم يفرز معالم صناعة ثقافية في الأفق، بشهادة مثقفين وفنانين، لاسيما وأن الحكومة اكتفت بصب مبلغ لا يتعدى الـ260 دولارا فقط، للتعبير عن تضامنها مع المنتسبين للقطاع خلال إجراءات الحجر الشامل التي عاشتها البلاد لمواجهة وباء كورونا، مما طرح بجد مسألة الوضع الاجتماعي للمثقف والفنان في البلاد.
ونفى الفنان والحكواتي العالمي ماحي صديق، في تصريح لـ”العرب”، أن تكون الهيئات الوصية مركزية كانت أو محلية، قد ساعدته في مهامه أو في حياته الاجتماعية، رغم تألقه العالمي ونهوضه بـ”الحكاية الشعبية” كفن إنساني تستفيد منه الشعوب والمجتمعات، وتساهم في التواصل بين الأجيال.
ويركز المشروع الحكومي على “مواصلة إنجاز المنشآت الثقافية عبر الوطن، وتكوين الكفاءات في المجال الثقافي، ودعم الإنتاج السينماتوغرافي والمسرحي”، فضلا عن “بذل جهد كبير لاسترجاع مختلف الأعمال الثقافية الوطنية التي تعرضت للسطو، ومواصلة تأهيل المواقع الأثرية الثقافية بما فيها القصبة، وتحسين مراقبة الحظائر الوطنية الثقافية وحمايتها، خاصة الواقعة في جنوب البلاد”.
وفي إطار تسويق الصورة الثقافية للجزائر على الصعيد الإقليمي والدولي، وضع البرنامج خطة الأسابيع الثقافية والتظاهرات والمعارض الثقافية عبر عدة بلدان، والمشاركة في المحافل الدولية الناشطة في مجالات الكتاب والمسرح والسينما في العالم.
كما شدد على تحسين الحماية الاجتماعية للفنانين، وحماية حقوقهم على غرار حقوق المؤلف ومحاربة القرصنة بصرامة، ورد الاعتبار لصناع الثقافة الجزائرية ولاسيما من خلال تكريمهم من طرف مؤسسات الدولة.
غير أن المشروع المتعثر بشهادة الرجل الأول في الدولة، مازالت الحكومة تتمسك به كملاذ للخروج من الوضع الذي وضع القطاع في قالب الكائن القاصر الذي يقتات من ريع الدولة، على ما للآلية من فساد ومحسوبية وتهميش للكفاءات والمشاريع الخلاقة.
الحديث عن صناعة ثقافية لا يمكن أن يتحقق بمجهود منفرد ولا يقوم إلا بتوازي جهود القطاعين العام والخاص
ويرى في هذا الشأن الفنان والممثل حسان كشاش في تصريح لـ”العرب”، أن “تسيير الثقافة في الجزائر يحتاج إلى إصلاحات عميقة، وأن الوصول إلى صناعة ثقافية يتوجب المرور على مراحل متسلسلة، قياسا بالتراكمات التي ترسبت في القطاع”.
ويضيف “في المجال السينمائي على سبيل الذكر، قبل الوصول إلى صناعة سينمائية حقيقية تحضر فيها الحكومة والقطاع الخاص، لا بد من المرور على الهياكل والمرافق وآليات التسيير والتكوين والمدن السينمائية، فمن غير المعقول أن تكون صالات العرض موروثة عن الاستعمار أو العقود الماضية، ثم نتحدث عن صناعة سينمائية”.
ونظمت الحكومة مؤخرا منتدى للاقتصاد الثقافي، خلص إلى جملة من التوصيات لـ”مرافقة ودعم الفنانين وحاملي المشاريع من خلال وضع آليات دعم وتسويق الإنتاج الثقافي، وخلق بيئة ملائمة من شأنها تحفيز الاستثمار في مجالات الثقافة والفنون والسير في الصناعة الثقافية”.
واقترح المنتدى على حاملي المشاريع ومتعاملين اقتصاديين وماليين الاستفادة من الامتيازات المخصصة في مجال الاستثمار المحددة في قوانين المالية التي تمنحها أجهزة الدعم المختلفة، ومن المزايا الممنوحة من قبل الوكالة الوطنية لتطوير الاستثمار، على غرار الامتيازات المطبقة على العقار الممنوح في إطار الامتياز أو تلك الجبائية والجمركية.
كما تضمنت التوصيات “تحفيز البنوك على مرافقة المشاريع المقترحة من طرف المؤسسات الناشئة والمؤسسات المصغرة في المجال الثقافي والفني، وتمويلها على أساس قروض بنكية وفق نسب تحددها النصوص القانونية، فضلا عن إعادة النظر في آليات دعم الإنتاج الثقافي والتسويق له من خلال وضع تحفيزات جبائية وجمركية من شأنها تسهيل تسويق المنتوج الثقافي الجزائري خارج الوطن“.
كما أوصى المنتدى بـ”ترقية البرامج التعليمية على مستوى مؤسسات التكوين التابعة لقطاع الثقافة، والاستعانة في إطار الاتفاقيات المشتركة بالخبراء الأجانب والمتخصصين في الميدان الثقافي والفني، وفتح تخصصات تكوينية للمهن المرتبطة بالإنتاج السينمائي والمسرحي والفنون التشكيلية والتراث، فضلا عن بعث دورات وورشات للتكوين المتواصل والتكوين المتخصص في المهن المرتبطة بالإنتاج الثقافي“.
وألح المشاركون في المنتدى على الإسراع في بعث شبكة توزيع للمنتج الثقافي عبر الوطن وخارجه، ومنصات رقمية للترويج مباشرة لاستعمال الدفع الإلكتروني داخل وخارج الوطن من أجل تعزيز التعاملات التجارية ذات الطباع الثقافي، مع تشجيع إنشاء منصات إلكترونية للتسويق المنتوج الثقافي.
وفي مجال نشر وتوزيع الكتاب، تمت الدعوة إلى إعفاء ضريبي على الورق الموجه لصناعة الكتاب، واتخاذ كل التدابير التي تساهم في خلق سوق حقيقية تنافسية للكتاب في الجزائر، وتشجيع إنشاء مؤسسات عمومية أو خاصة تعنى بتوزيع الكتاب في الوطن وخارجه.
وحث مشاركون في منتدى الصناعة الثقافية على ضرورة “التكتل في شكل نقابات أو جمعيات من شأنها أن تساهم في تعزيز التعاون والاتصال المؤسساتي في مجال الاستثمار الثقافي، وإشراك الفاعلين الثقافيين في إعداد السياسات الثقافية”.
الصناعة الثقافية
في تصريح لوزيرة الثقافة الجزائرية نورية بن دودة، للإذاعة الحكومية، اعترفت بأن “الصناعة الثقافية لا تواكب الموروث الثقافي الضخم للبلاد، ولم ترتق إلى خلق سوق ثقافية حقيقية، وأن الموروث الضخم بإمكانه تقديم خدمة لمشاريع التنمية والمتعاملين الاقتصاديين مستقبلا في تسطير مشاريعهم دون المساس بهذه المواقع”.
وأوضحت المتحدثة أن “الحظيرة الأثرية الوطنية المتوفرة رقميا تضم أزيد من 15200 موقع أثري في انتظار اعتماد مواقع جديدة لترتفع إلى ما يزيد عن 20 ألف موقع”.
وأبرزت أن “تحيين الخارطة الأثرية يتضمن إضافة 7652 موقعا جديدا تمت إضافتها إلى 7640 موقعا كانت موجودة في الأطلس الأثري، التي تم إنجازها عام 1911، وأن الخارطة الأثرية الرقمية ستظهر أن الجزائر بلد ضارب في عمق التاريخ والدليل الكشف الأثري الأخير بعين بوشريط بسطيف الذي يعود إلى 2.5 مليون سنة”.
ويرى مختصون أن الحديث عن صناعة ثقافية لا يمكن أن يتحقق في شكل مجهود منفرد، ولا يمكن أن يتحقق إلا بتوازي جميع الجهود في الحكومة، ففي ظل منظومة مصرفية بدائية لا يمكن الكلام عن سوق ثقافية يتم خلالها تسويق وترويج منتوجات محليا وخارجيا، فالجزائر من البلدان القليلة في المنطقة والعالم التي تفتقد للدفع الإلكتروني وللتدفق اللازم للإنترنت.
وتبقى الاستثمارات الثقافية والفنية في الجزائر محتشمة جدا، رغم أن المشروع يعود إلى سنوات حكومة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، وكل ما هو قائم هو جهود فردية أو جماعية معزولة، على غرار مسرحين خاصين في تيندوف ووهران، إلى جانب المدينة السينمائية التي ظهرت مؤخرا في العاصمة لإنتاج الجزء الثالث من مسلسل “عاشور العاشر”.
وشكلت منصة “لوحتي” الإلكترونية التي أطلقتها الحكومة مؤخرا خطوة في طريق تجسيد المشروع المأمول، حيث خصصت “لعرض وبيع الأعمال الفنية من لوحات وصور ومنحوتات عبر الإنترنت بهدف تنظيم وتطوير سوق المقتنيات الفنية وفتح آفاق جديدة للفنانين الجزائريين”.
وأوضح بيان لوزارة الثقافة والفنون أن المنصة تتضمن قائمة أولية لأعمال لنحو 30 فنانا من الجزائر من بينهم صادق أمين خوجة، ويزيد خلوفي، وعامر الهاشمي، وسفيان داي، وعدلان جفال، وزهرة حشيد سلال ونجوى سراع.
وصرحت الوزيرة بن دودة بأن “الكثير من فنانينا الذين يعانون وضعا صعبا هم في الحقيقة مشاريع لأسماء عالمية لو منحت لها الفرصة وأُتيحت لها الظروف لعرض وتسويق منجزاتها بمرافقة نقدية وإعلامية وترويجية”.
وأضافت “ليس الفنان وحده من يشكو من هذا الوضع، فالزبون أو المتذوق أيضا يحتاج إلى فضاء يضمن له القيمة والتقدير ويقترح عليه ضمان أصالة وجودة ورقي وتميز العمل الفني، ونحن نرجو أن يقدم هذا المشروع بادرة بهذا الشأن، وأن تنويع المنافذ وخاصة الإلكترونية سيتيح للفنان الجزائري فرصة عرض أعماله في الداخل وفي الخارج”.
ولفتت إلى أنها “اقتنت لوحة من المنصة، وسأستلمها في المنزل وأدفع عن طريق شيك، لكن العمل جار حاليا مع البنوك لتفعيل الدفع الإلكتروني عن طريق البطاقات البنكية”، في تلميح للاختلال القائم بين المشروع الطموح وبين المناخ المتخلف.