إدغار يازجي يشعل بالفحم الأسود بهجة الألوان

قدم الفنان التشكيلي اللبناني إدغار يازجي في بيروت مجموعة من أعماله الفنية الجديدة في صالة “آرت أو 56 ستريت” تحت عنوان “قصص غير محكية”، حيث سرد عبر دراسات بالفحم الأسود على الورق ولوحات مُختلفة الأحجام ومشغولة بمادة الأكريليك فصولا من قصص اختلط فيها الغامض بالواضح بأسلوب تعبيري شفاف اشتهر به الفنان، أسلوب من أبرز سماته تأرجحه مع سابق إرادة وتصميم ما بين التجريد والتشكيل.
الجمعة 2017/07/07
بين التجريد والتشكيل

بيروت – من المعلوم أن الأعمال الفنية التشكيلية التي تتبنى سرد قصص ما، بغض النظر عن ماهيتها، تعرضت من قبل الضالعين في شؤون الفن لانتقادات لاذعة مفادها أن الفن يجب أن يكون خارج منطق السرد القصصي، لأنه ليس كتابا روائيا أو فيلما سينمائيا، حتى أن بعض النقاد كان ينتقد الفنانين الذين يضعون عناوين واضحة لأعمالهم ظنا منهم أنهم بذلك يحدّون من خيال المُتلقي، غير أن هذه الطريقة في الحكم على الأعمال الفنية قد خفت وطأتها بشكل كبير في ظل اقتناع تام بلانهائية الاحتمالات والصيغ التي يمكن أن يظهر بها أي فن من الفنون.

ولعل معرض الفنان التشكيلي اللبناني إدغار يازجي الأخير بصالة “آرت أو 56 ستريت” البيروتية، والمعنون بـ”قصص غير محكية”، وكذلك معارضه السابقة أكبر دليل على انكفاء هذه النزعة لصالح التعبير الحرّ، وهو الذي تميّز فنه، ومنذ سنوات عديدة بـ”شهية” السرد المنقوص.

ومعظم اللوحات التي قدمها يازجي في معرضه الأخير لا تقوم فقط بمهمة سرد فصل من قصة ما فرضت نفسها على خياله وريشته، طالبة منه أن يحقق وجودها، بل بدت غير مُستقرة وعرضة للتبدل تحت نظر المُشاهد، والمقصود بذلك أن اللوحات توحي للمُشاهد بأنها غير مُكتملة وقابلة للاكتمال أو حتى التحول إلى عكس ما هي عليه إذا ما عاد إليها الفنان، متناولا ألوانه وريشته من جديد.

وقد يكون هذا أجمل ما تحتضنه اللوحات، هو تماما هذه القدرة على الإيحاء بأن لكل فصل تسرده عدة احتمالات، وعدة مسارات مُعاكسة، قد تكون هذه الخاصية راجعة إلى هذا المزيج المُتجانس ما بين التجريدي المفتوح بوسعه على التأويل والتشكيلي المُقيم لحدود السرد البصري وشروطه.

وتموج شخصيات الفنان في لوحاته ما بين الخيال والحقيقة وما بين البوح والكتمان لتبقى سيدة مصائرها الوردية الإيحاءات في معظمها، حتى العناوين الرحبة للوحات تساهم في ترك هذا الانطباع في نفس المُشاهد، نذكر من العناوين “”قصة حب” و”زبد الأيام”.

ويبدو يازجي في لوحاته الجديدة غير مؤمن إلاّ بالنهايات السعيدة لكل مقتطفات القصص التي تسردها ريشته، تلك النابعة من خياله أو من تجاربه الشخصية، لا يعود ذلك إلى أنه لم يختبر الحزن والألم يوما، بل يؤكد على كونه فنانا مفتونا بتخطي الألم، وتوّاقا إلى الفرح وإلى كل ما يمكن أن يسببه وإن لفترة قصيرة من الزمن.

أما أسلوبه “الهجين” الذي يعتمد على المزج ما بين التشكيلي والتجريدي، والذي يعتبره الفنان من أهم ما يرغب في الاحتفاظ به والعمل على بلورته في معارضه التالية، فهو على الأرجح السبب الرئيسي خلف حيوية المشاهد التي يرسمها.

شخصيات الفنان تموج ما بين الخيال والحقيقة وما بين البوح والكتمان لتبقى سيدة مصائرها الوردية الإيحاءات

أشكال مفككة حينا ومتصلة ببعضها البعض حينا آخر، يجدها المُشاهد تشفّ على بعضها البعض في مواضع محددة من اللوحة لتعود وتتكثف في هيئات أشكال هندسية واضحة المعالم: مربعات ومستطيلات تكسر واقعية وانسيابية المشاهد، وترد أبطال لوحاته إلى مجرد التباسات بعيدة عن الواقع ومُتداخلة مع خلفيات اللوحات المُلونة.

كما يلعب اللون دورا أساسيا في تشكيل مستويات متعددة، لا بل متتالية، في قلب اللوحة الواحدة تذكر كثيرا بالفن المُستقبلي الذي يُجمد الزمن، ولكن فقط عبر تقديمه بصريا في هيئة محطات متعاقبة.

في معرض “قصص غير محكية”، يقدم يازجي 15 رسما بالفحم على الورق تشي ببراعة الفنان في أصول الرسم، والأهم من ذلك توحي بأنها المنطلق لباقي اللوحات المشغولة بمادة الأكريليك، خاصة عندما نعلم أن الفنان بدّل أسلوب ممارسته الفنية.

فحين يخطط مُسبقا لما كان يريد أن يرسمه يعمد إلى وضع مسحة أو ضربة لون ويدعها “تسيّره” نحو تكوين الشخصيات وبناء القصة التي تنساب هذه الشخصيات في فضائها دون معالم شكلية وبلا نهاية محددة، كما كل نص فني يوحي ويشير، ولا يتبنى خطابا مباشرا.

هنا تذكر لوحاته، وخاصة الأكريليكية بأعماله السابقة، لا سيما بمعرضه الذي أعطاه عنوان “فُقد ثم وجد”، حالة “الفقدان” تبدو المُحرك الأساسي في لوحاته، ولكنها حالة تبدو في لوحاته الجديدة مُكرسة وتحت السيطرة قد اعتادها الفنان وخطّها بغبش الرؤيا وغموض النهايات والبدايات على حد السواء، لذلك ربما ينتشر في جميع لوحاته جو من السلام حتى تلك المُلتحفة بحزن شفاف.

تُذكر لوحات يازجي بأعمال فنان “التعبيرية الألمانية” أوغوست ماكي من حيث الألوان المُستخدمة والحساسية الحادة تجاه الأشكال والخطوط، ولكن أجواء لوحاتهما تختلف في مكان أساسي، ففي حين لا تبغي لوحات ماكي أي غموض أو اِلتباس، تقول لوحات يازجي للناظر إليها “الحياة أقصر من أن نمضيها في الحسرة”.

17