إحياء فتوى محسومة عن التهنئة بأعياد الميلاد: استعراض للتسامح يأتي بنتائج عكسية

ما زال أصحاب التوجهات المتطرفة يتعاملون مع أي حالة تقارب بين المسلمين والأقباط في مصر على أنها انتكاسة سياسية لهم.
الاثنين 2025/01/06
أقباط مصر يدفعون فاتورة لا ذنب لهم فيها

القاهرة– استقبل القبطي المصري بولا منصور فتوى دار الإفتاء بإباحة تهنئة المسلم للمسيحي في أعياد الميلاد بامتعاض واضح، لأنها جلبت تحريضا من عناصر متشددة كانوا في غنى عنه، لو كانت مؤسسة الفتوى الرسمية التزمت الصمت ولم تتبرع بتشجيع المسلمين على معايدة المسيحيين وتركتهم يتعاملون بتآخٍ وإنسانية ومحبة.

وتعرضت دار الإفتاء لانتقادات حادة من فئات مختلفة، لأنها بدت كأنها تتعمد إثارة موضوع ملتهب كي تُظهر للأقباط أنهم في حمايتها الدينية ومستعدة لأن تخوض من أجلهم معارك فقهية استباقية، كمحاولة ترمي إلى تقديم نفسها للسلطة على أنها مؤسسة منفتحة.

وبادرت دار الإفتاء عبر منصاتها الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي بنشر فتاوى دورية تخص الرأي الشرعي لتهنئة غير المسلمين بأعيادهم، لكنها تعرضت لهجوم من عناصر متشددة طعنت في تلك الفتاوى، وهي معركة كلامية أصرت خلالها دار الإفتاء على نشر تنويهات تدافع عن إباحة تهنئة غير المسلمين.

هذه المرة صمت المتطرفون عن أعياد المسيحيين، ما أثار تساؤلات كثيرة حول تبرع دار الإفتاء بإعادة فتح ملف محسوم

وتسببت دار الإفتاء في أن يدفع أقباط مصر فاتورة لا ذنب لهم فيها، حيث تحولوا إلى حلقة ضعيفة ضمن صراع بين السلفيين والمؤسسة الدينية حول مشروعية التهنئة الموسمية، بشكل أثار غضب المسيحيين من دار الإفتاء قبل المتشددين، لأن العلاقة مع المسلمين تجاوزت الاحتماء بفتوى لإباحة التهنئة بعد أن توارت جماعة الإخوان وحلفاؤها المتطرفون عن المشهد.

وتشوق الأقباط لأن تمر بداية هذا العام بسلام بعيدا عن أي خطاب تحريضي، أو يكونوا جزءا من فتوى مصدرها متطرفون أو مؤسسة دينية رسمية، لأن تكرار التطرق إلى علاقاتهم مع المسلمين يجعلهم في نظر البعض متهمين على الدوام أو كأنهم طائفة دخيلة.

قال القبطي بولا منصور لـ”العرب” إنه أصيب بصدمة عندما رأى التعليقات على الحساب الرسمي لدار الإفتاء ، من هول النظرة المتشددة إلى المسيحيين، وكان لزاما على المؤسسة الدينية أن تتوقف عن إصدار تلك الفتوى، لأن المجتمع يسير في طريق التحضر الفكري، والعلاقات الإنسانية لم تعد رهينة فتوى تبيحها.

وأضاف أنه تابع زيارة شيخ الأزهر ووزير الأوقاف إلى بابا الكنيسة (السبت) لتهنئة الأقباط بأعيادهم، وكان يمكن الاكتفاء بتلك الرسالة للتأكيد على متانة العلاقة دون إصدار فتوى، معقبا “ربما يعتقد أصحاب فتاوى الإباحة أن الأقباط سعداء بذلك، لكنهم يحزنون من الفتوى الموسمية، خاصة إذا صمت المتشددون.”

ولم يعلّق السلفيون هذا العام على تهنئة الأقباط بأعياد الميلاد بعد أن ظلوا يتعاملون مع تلك الفتاوى كطقس سنوي يستهدفون منه تكدير المسيحيين وصناعة جدل ديني لمآرب سياسية، لكن هذا الصمت لم يُقابل بإسكات مؤسسة الفتوى عن الخوض في هذا الملف الشائك، ما أثار استياء شعبيا، لأن المجتمع نفسه تجاوز هذه المرحلة.

وبلغ استفزاز المتشددين للأقباط أحيانا حدّ أن بينهم من كتب على صفحة دار الإفتاء أن إباحة التهنئة محاولة لتكريس علمانية الدولة، وآخرون ذهبوا إلى أن الفتوى تساعد على نشر التبشير بين أفراد المجتمع، بلا اكتراث من المؤسسة الدينية بأن التسامح لا يتطلب موافقة مسبقة، ويكفي منح الأفراد الحرية المطلقة للتعايش بطبيعتهم.

حح

وما زال أصحاب التوجهات المتطرفة يتعاملون مع أي حالة تقارب بين المسلمين والأقباط في مصر على أنها انتكاسة سياسية لهم، حيث اعتادوا القيام بتصرفات وإصدار آراء متشددة مصدرها التراث القديم، تستهدف تخريب العلاقة بين الطرفين، حتى أصبحت لديهم حساسية مفرطة كلما صدرت فتوى تدعو المسلمين إلى التعامل مع الأقباط بتراحم ومودة وإنسانية.

واعتاد مسيحيو مصر التعرض لفتاوى متشددة بتحريم تهنئتهم في أعيادهم، ثم تتحرك إحدى المؤسسات الدينية الرسمية للرد بالعكس مستندة إلى نصوص فقهية تعزز موقفها، لكن هذه المرة صمت المتطرفون عن أعياد المسيحيين، ما أثار تساؤلات كثيرة حول تبرع دار الإفتاء بإعادة فتح ملف محسوم.

وارتاحت الحكومة المصرية كثيرا للهدوء الظاهر في العلاقة بين المسلمين والأقباط ولم تعد لديها منغصات عاجلة، وتسعى دائما لتمرير احتفالات أعياد الميلاد في أجواء هادئة، بعيدا عن  تعكير تلك المناسبة بتلاسن من هنا أو فتوى من هناك.

ويرى مراقبون أن الهزائم المتلاحقة التي تعرض لها التيار السلفي جعلته يائسا من تحقيق انتصار على حساب العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، لذلك غابت الفتاوى التحريضية ضد الأقباط دون أن يحدث الأمر نفسه مع دار الإفتاء التي أثارت استفزاز أصحاب العقول المريضة وجعلتهم ينشطون بحثا عن تحقيق مكاسب مشبوهة.

ويبدو أن بعض رجال الإفتاء يستهويهم أن تكون الدار وحدها جهة ترسم علاقات الناس في غياب فهم طبيعة التغيرات في المجتمع، وأن الأغلبية تؤمن بالتعايش بعيدا عن فتاوى الإباحة قبل التحريم، لأن الأجيال الصاعدة ترفض أن تكون تعاملاتها في الحياة الشخصية والعامة أسيرة لفتوى طارئة.

ويقول معارضون للفتاوى الموسمية إنه لا يُعقل أن تسعى السلطة لتكريس مدنية الدولة والتعايش بين العقائد ونشر المحبة والترابط على أساس وطني، وتبادر مؤسسة الفتوى بإحياء التطرف لمجرد الرغبة في مجاملة الأقباط بلا إدراك أنها تعيد المجتمع إلى الوراء.

وأكد الكاتب المصري خالد منتصر أن إعادة إحياء قضايا محسومة ترتبط بالعلاقة بين المسلمين والأقباط خطر على المستوى الأمني والفكري والسياسي، ويهدد مدنية الدولة، لافتا إلى أن دار الإفتاء المصرية  دخلت “دائرة الترند والبحث عن الشهرة واللهث وراء الأضواء، وهذا مرض اجتماعي وسياسي في توقيت يحتاج إلى توحد الجبهة الداخلية.”

حح

وأوضح لـ”العرب” أن الوصول إلى التحضر يتطلب ابتعاد المؤسسات الدينية عن الشارع، وتكمن المشكلة في الإصرار على التمدد بعيدا عن الحدود المسموح بها، ودار الإفتاء مصممة على فتح نقاش حول قضايا جدلية كلما غابت عن دائرة الاهتمام، لذلك تتطرق إلى قضايا تعيدها إلى الواجهة بشكل يكرّس المزاج السلفي في المجتمع.

ومن الخطأ التعامل مع الأقباط على أنهم بحاجة إلى ترضية أو حماية دينية، لأن مثل هذه الفتاوى تقدم صورة سلبية عن وضعهم بالمخالفة للواقع الذي يتعايشون فيه، ومن المفترض أن مصر تجاوزت الخطاب الطائفي، والنبش فيه يفيد المتشددين ويجعل المؤسسات الدينية في حال توضيح دائم لقضايا محسومة.

لم يعد مطلوبا من دار الإفتاء إذا أرادت تعزيز التسامح بين المسلمين والمسيحيين، أن تصدر فتاوى بالإباحة أو التحريم، بل تترك الناس يتقاربون بلا وصاية، لأن أي تدخل ديني في علاقات المجتمع يرتقي إلى التطرف المغلف بخطاب التسامح، وهذا في حد ذاته تحريض ضد التعايش ويهدد التماسك الداخلي.

كما أن استمرار فتاوى إباحة التعامل مع الأقباط في أي مناسبة، يُحرج الحكومة ويجعلها تبدو كمن تتعامل مع المسيحيين كأقلية تكافح لنيل حقوقها، بينما هم حصلوا على مكتسبات دينية وسياسية واجتماعية عديدة في السنوات الماضية، وما لم تتوقف دار الإفتاء وغيرها عن هذا السلوك فسوف تصبح تلك المكتسبات في مهب الريح.

ومهما كانت نوايا دار الإفتاء حسنة، من الخطأ استثمار الدعوة إلى تهنئة المسيحيين لإظهار وسطيتها وتوظيف هذا الملف الشائك في نفي تهمة الرجعية عنها، وإذا نجحت في التسويق فقد تتسبب في التأثير على العلاقة بين أفراد المجتمع بالتنقيب في قضايا محسومة عملت الحكومة جاهدة على غلقها تماما.

1