إحدى الشخصيات المسرحية لسارتر ساهمت في تشويه أفكاره

في الذكرى الـ41 لوفاته علينا تصحيح مقولته "الجحيم هو الآخرون".
الخميس 2021/04/15
لكي نفهم مسرح سارتر علينا فهم فلسفته كاملة

حتى الذين لا يعرفون جان بول سارتر ولم يقرأوا أيّا من أعماله يعرفون أنه ذلك المتشائم القائل "الجحيم هو الآخرون"، وقد أردنا في يوم ذكرى وفاته الموافق للـ15 من أبريل 1980، أن نقدم قراءة أخرى لهذه المقولة التي فُهمت ولا تزال تُفهم بشكل مغلوط إلى يومنا هذا.

وردت مقولة “الجحيم هو الآخرون” على لسان شخصية غارسان في مسرحية سارترالمعنونة بـ«الأبواب المغلقة» أو «لا مفر»، كما وردت في ترجمتها الإنجليزية، ومن ضمن ما يُفهم من هذه المقولة أن الآخر هو مصدر الشر والإساءة، وأنّ العالم كان يمكن أن يكون جنةَ لولا وجود الآخر فيه.

 وقد تحولت هذه المقولة على الفور إلى شعار لخص فلسفة سارتر في العلاقات بشكل لم يكن أي تصحيح أو تأويل مغاير لها ممكنا، حتى أن كل محاولات سارتر اللاحقة في أعماله من مشاريع التضامن والالتزام السياسي وغيرها لم تُعرف كما عُرفت هذه المقولة السلبية في تعبيرها الأولي، بل صارت مضرب مثل لمن يود إظهار تسامحه الإنساني مقابل أنانية سارتر المُفترضة. ولذا كان السؤال عن سبب قوة هذه المقولة ومن ثم تأويلها أمرا يستحق التأمل والبحث.

إن معرفة أسباب قوة وشهرة هذه المقولة تكشف عن احتمالية أن يكون المفهوم الجهنمي للعلاقات متأتيا من عوامل محدّدة متعلقة بالمسرحية لا بالطبيعة الإنسانية عامة. ونوجز هذه العوامل في ثلاث نقاط أساسية تتعلق بتأويل المسرحية، ببنيتها الفلسفية، وأخيرا بسلبية المقولة في حد ذاتها. ولنتفحص هذه النقاط هنا لنرى ممّ وكيف نبتت فكرة الجحيم.

الأبواب المغلقة

صراع بين 3 شخصيات
صراع بين 3 شخصيات

تتمحور مسرحية «الأبواب المغلقة» حول صراع ثلاث شخصيات سجينة إلى الأبد في جحيم من نوع خاص، دون أدوات تعذيب أو نيران متقدة. إن شخصيات المسرحية هم جميعا ممن ارتكبوا جرائم في حياتهم، وأتت ميتتهم كرد وعقاب على أعمالهم، فغارسان الذي يستنتج أن “الجحيم هو الآخرون” هو شخص هارب من الجندية وهو معذِّب لزوجته، أما أنييس التي تلعب دورا ساديا ضد غارسان فهي شخص أفسد حياة حبيبين فانتهى بها الأمر إلى الموت اختناقا بالغاز، وأما إستيل فهي نموذج غارق في سوء الطوية وهي قاتلة لطفلها.

تفيدنا هذه التفاصيل في مسح طابع الموضوعية عن أقوال الشخصيات حيث أن المسرحية تُجسّد حالات أبطال مضادين، فلا ينفع والحالة هذه جعل أقوالهم الناجمة من واقع قصصهم سمة للحقيقة الإنسانية عامة.

يكرس التأويل عادة نوعا من الإسقاط العام بحيث أن الأحكام تأخذ سمة العام والموضوعي وتصبح أحكاما مطلقة، وبهذا يحقق الأدب عظمته، لكننا نعلم في ذات الوقت أن عالم الأدب هو عالم النسبية وغايته ليست تقديم ثوابت خاصة بالطبائع البشرية بل الكشف الرهيف عنها بعيدا عن الجزم والتأكيدات.

وفي مسرحية «الأبواب المغلقة» يجب ألا نغفل أن هذه الشخصيات تُمثّل من وجهة نظر سارتر الجانب السلبي للأشخاص المستَعبَدين الذين لا يرون حريتهم ولا مسؤوليتهم إزاء الآخرين. فالحقائق لن ترد على ألسنتهم على الأقل. وههنا من المهم أن نُسقط مقولة “الجحيم هو الآخرون” على تجربة هؤلاء الثلاثة لا على الطبيعة الإنسانية بشكل عام ومطلق.

مقولة "الجحيم هو الآخرون" التي جاءت في إحدى مسرحيات سارتر تحولت إلى شعار لخص فلسفته بشكل مغلوط

ويأتي السبب الثاني لتأكيد المعنى الجهنمي السابق للعلاقات إلى المكان الذي تدور فيه أحداث المسرحية. فالمكان المختار في المسرحية هو غرفة مغلقة بلا نوافذ، وبباب لا يُفتح وبممرات لانهائية تؤدي كل منها إلى ممرات وغُرف أخرى مشابهة إلى ما لانهاية له. تجعل هذه السوداوية المكانية عامل الجهنمية حاضرا بقوة وتصبح السمة الجهنمية قابلة للإسقاط بسلاسة على العلاقات المتأزمة بين الشخصيات.

ثالثا، يرتبط مفهوم الجهنمية في هذه المسرحية بالذات بالعلاقة الثلاثية. وهذا النوع من العلاقة جهنمي لأنه يتنافى مع علاقة الحب المثالية التي تفترض إثنين: ذاتا وموضوعا. أي أن كل علاقة حب منظورة من قِبل عين ثالثة مُعرّضة للتهديد والنفي. فالنظرة الثالثة هي نظرة حُكم تُقيّم الحب بين الحبيبين وتمنع تبادل أدوار الذات والموضوع بشكل تلقائي بينهما. وقد عاش سارتر بنفسه جحيم علاقة ثلاثية مع صديقته سيمون دو بوفوار وعشيقته أولغا كوزاكيفيتش، كما شكلت هذه العلاقة الثلاثية موضوع إحدى روايات سيمون دو بوفوار المعنونة بـ”المدعوّة”.

يمكننا أن نرى من خلال هذه النقاط الثلاث أن مقولة “الجحيم هو الآخرون” لا تستدعي أي قيمة مطلقة إن أردنا لها ذلك، بل ترتبط بمعطيات المسرحية والسياق الذي تُعرض فيه حكاية الشخصيات.

ويُحيل الناقد دوني بونوا سوء الفهم الحاصل بخصوص هذه المسرحية إلى طبيعة موضوعها الفلسفي. فيرى أن ما خلق تشوشا في فهم وتأويل المسرحية هو أنها أوقعت قضية فلسفية مُعقّدة في يد جمهور غير مؤهّل لها. ويرى أنه لكي نفهم مسرح سارتر علينا فهم فلسفته كاملة.

خلق الصدمة

سارتر الذي فُهم خطأ إلى اليوم
سارتر الذي فُهم خطأ إلى اليوم

حقيقة إن فلسفة سارتر ليست منغلقة وقاصرة بهذا الشكل الساذج. فإلى جانب مفهوم الصراع الذي يصبغ العلاقات فإن الأنا في فلسفة سارتر لا تتشكل ولا تتعرف على نفسها ولا تتطور دون الآخر، والقول إن الآخر هو سبب الأسى والصراع، لا يعني أنه لانتزاع الصراع والأسى من عالمي على انتزاع الآخر، بل يعني أن الحركية التي تقتضيها علاقتي مع الآخر كحرية في مواجهة حرية أخرى هي التي تخلق تلك الديناميكية التي لا يُفترض أن تكون سيئة أو شريرة في حد ذاتها.

وفي تسجيل صوتي متأخر عام 1965، أي بعد نحو إثني وعشرين عاما من عرض المسرحية لأول مرة، قدّم سارتر تصحيحا لهذه المقولة قائلا “إن مقولة ‘الجحيم هو الآخرون‘ فُهمت على الدوام بشكل مغلوط. ما أردته هو شيء آخر تماما. أردت حقيقة القول إنه إذا كانت علاقاتنا مع الآخرين ملتوية وفاسدة فإن الآخر سيكون لا محالة الجحيم بذاته”.

وأشار سارتر إلى أن ما ظهر على خشبة المسرح هو بالضبط ما لا يجب أن تكونه العلاقات مع الآخرين عليه، لأن استناد المسرحية كان على علاقات مغلوطة وأحكام مُقيدة لا على علاقات سليمة.

وهناك بالطبع من النقّاد من رفض هذا التصحيح المتأخر من سارتر، إذ يقول بيير فيرشترايتن “لا ندعم على الإطلاق هذا التناقض الذي يلبس ثوب المخلص لسارتر. ليست هناك وسيلة لأن نقتصد ما جاء في ‘الأبواب المغلقة‘ بطريقة واضحة، حيث أن سارتر قال بحق إن الأسى والخجل والألم لا مهرب منها في العلاقة مع الآخر”.

ويمكننا بالطبع كمتلقين ومؤسِّسين حقيقيين للمعنى الأدبي ألا نُلقي بالا لتدخّل المؤلف لحل قضية متعلقة بنص أكثر من تعلقها بمؤلفها، ويمكننا الاعتماد التام على النص في حد ذاته لعلمنا أنه يتجاوز مقاصد وأيديولوجيا المؤلف الواعية كونه (أي النص) يمتلك في حد ذاته لاوعيه الخاص به.

معرفة أسباب قوة وشهرة مقولة "الجحيم هو الآخرون" تكشف عن احتمالية أن يكون المفهوم الجهنمي للعلاقات متأتيا من عوامل محدّدة متعلقة بالمسرحية لا بالطبيعة الإنسانية عامة

ومع ذلك وبغض النظر عن محاولة سارتر الأخيرة هذه فإن العوامل التي سردناها سلفا تعطي إمكانية قوية لإعادة النظر في تفسيرنا للأدب لا كقطعة مقدسة تنطق بالحقائق الأبدية بل كقطعة جمالية تتضمن ألوانا مختلفة من التأويلات المشروعة. والسؤال الذي يستحق أن يُطرح هنا ليس: لماذا العلاقات جهنمية لدى سارتر؟ بل: لماذا استخدم سارتر عبارة “الجحيم هو الآخر”؟

إن خلق صدمة وكسر الرضا لدى الجمهور المشاهد أو القارئ ونقله من حالة سلبية إلى حالة تفاعل وتفكر، هي التي تهم، ومن خلال عبارة كهذه حققت المسرحية من الانتباه ما لم يكن من الممكن تحقيقه فيما لو تجنبت تلك الصدمة. أما السبب الآخر فيتعلق كما أشرنا بوضع أبطال المسرحية نفسها حيث يتولد الجحيم الحقيقي من خضوع كل واحد منهم للآخر واتخاذه جلادا وحَكَما له.

هذه الطريقة في قول شيء بطريقة أخرى صادمة ترينا أن ما تعرضه المسرحية ليس قضية بل “قضية مضادة”، وهذا يعني أن كل فهم مباشر للكلمات سيخلق سوء فهم كبيرا فيما لو اكتفينا به كوجه وحيد للتأويل الأدبي.

أخيرا، يسعفنا قول الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو في التزام حدودنا المعقولة في تأويل النص حين يقول  “النصوص الأدبية عادة ما تُفصح عن أشياء أكثر من تلك التي يعرفها مؤلفوها، لكنها أقل من الأشياء التي يريد القرّاء المتطرفون أن تفصح عنها”. ويعني بهذا أن التأويل واسع الحدود لكنه يصبح تطرّفا عندما يصل إلى حد يتجاوز معه القارئ النص ومعطياته.

15