إبراهيم حمدتو بطل تنس طاولة ينسف المفاهيم التقليدية للإعاقة

عكست النجاحات التي حققها البطل المصري إبراهيم حمدتو في لعبة تنس الطاولة محليا وأفريقيا ودوليا، رغم فقدانه ذراعيه منذ طفولته، حقيقة مفادها أن الرياضة في مجملها أكبر من مجرد بحث عن الألقاب والميداليات والتكريم، بقدر ما يمكن توظيفها لتحطيم القيود وإثبات الذات بعيدا عن المكاسب والخسارة.
أثبت حمدتو خلال مشاركته الأخيرة في دورة الألعاب البارالمبية في اليابان أن الثقافة الراسخة عن أن التاريخ لا يتذكر سوى الفائزين بالبطولات والأرقام القياسية مجرد أكذوبة، فرغم خسارته في مباراتين متتاليتين نجح في إحداث صدى عالمي، وجعل أغلب من تابعوا البطولة أن ينحنوا أمام عزيمته ويقفون له احتراما، وعلى رأسهم اللاعب الصربي نوفاك ديوكوفيتش، أسطورة تنس الطاولة والمصنف الأول عالميا، الذي قال عنه “هذا لاعب رائع.. أنا في حالة ذهول مما يفعله”.
لم يصعد إلى منصة التتويج في الدورة البارالمبية، لكنه نال شهرة وإشادات دولية من رياضيين وسياسيين جعلت منه أيقونة للتحدي، ورشحته مصر لجائزة الإلهام الرياضي بعدما وصفه كبار محترفي تنس الطاولة بأنه أكبر من مجرد بطل، فهو معجزة حقيقية ومصدر فخر لكل من ينافسه في اللعبة.
لاعب بجناحين
أصبح حمدتو أول لاعب تنس طاولة في تاريخ اللعبة، يمارسها وهو فاقد لذراعيه، حيث يضع المضرب بفمه ويقبض عليه بأسنانه ويرمي الكرة بأصابع قدمه اليمني بطريقة تعكس حجم الاحترافية والإصرار على تحدي الإعاقة التي تعرض لها وهو في سن العاشرة، وجعلته عاجزا عن ممارسة كرة القدم التي كان يفضلها.
في كل مشاركاته بأي بطولة ينال التصفيق من الجمهور، ليس لأنه يمارس اللعبة باحترافية، لكنه مع كل ضربة للكرة ناحية المنافس يوحي بأنه يوجّه رسائل للآخرين، مفادها أن الإعاقة ليست في الجسد وبإمكان أي إنسان أن يفعل المستحيل طالما مازال على قيد الحياة ولا يجب أن يتحجّج بتحديات أو صعوبات مهما بلغت.
وإذا كانت دورة الألعاب البارالمبية معروفة بأنها مليئة بقصص الذين تغلبوا على إعاقاتهم بشكل يثير الدهشة ونجحوا في الوصول إلى البطولات الدولية ليؤكدوا أنها لا شيء اسمه إعاقة، لكن حمدتو تميز عن الجميع في صعوبة الطريق الذي سلكه، والصعاب التي نجح في هزيمتها دون مساعدة من أحد.
كل خسارة مكسب
لا يتعامل حمدتو مع كل هزيمة باعتبارها خسارة، بل ينظر إليها على أنها مكسب. ليس شرطا بالنسبة إليه الحصول على ميدالية أو الوقوف على منصات التتويج، بل النجاح الحقيقي أن يقول الإنسان للعالم أنا موجود وأستطيع حتى لو لم يحقق الانتصار، لكن تكفيه المحاولة لتكون لديه العزيمة والإصرار على العودة مجددا والاستمرار في السعي نحو تحقيق الحلم.
لم تكن الرياضة بالنسبة إلى هذا الملهم لعبة يثبت فيها قدرته على تجاوز تحديات الإعاقة، بقدر ما وظفها في تعظيم إمكانياته، فهو لا يجيد تنس الطاولة فقط، بل أيضا فنان في طريقة الكتابة عندما يضع القلم في فمه ويسطر الكلمات وكأن كاتبها خطاط ماهر، ما يعكس أنه جعل من الرياضة مدخلا للحياة المثالية التي يفتقدها الأصحاء.
ما ساعد حمدتو على تجاوز مشقات الإعاقة التي تعرض لها أنه ولد من رحم الشقاء، فهو الذي ينتمي إلى أسرة فقيرة تعيش بإحدى قرى محافظة دمياط، شمال شرق القاهرة، ومن شدة معاناة أسرته من قلة الدخل قرر والده أن يلحقه للعمل في الأعمال الحرفية لجلب المال، وكان يوميا يسافر إلى مسافات بعيدة للاسترزاق.
ذات يوم، وحين كان يستقل القطار الذي يصل به إلى مقر عمله سقط من باب إحدى عرباته فتعرض ذراعاه للبتر ولم تفلح محاولات إنقاذه وأصبح طريح الفراش لشهور طويلة، ودخل في حالة اكتئاب استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، لم يختلط بأحد أو يذهب إلى المدرسة لشعوره بأن حياته انتهت وصار عاجزا.
كثيرا ما تعرض للتنمر في الصغر عندما كان يذهب إلى مركز شباب القرية التي يعيش فيها، هذا يسخر من اختفاء ذراعيه، وذاك يردد على مسامعه عبارات جارحة باعتباره صار عاجزا، وعندما حاول ممارسة رياضة كرة القدم لينسى الهموم ويستعيد حياته بشكل طبيعي مرة أخرى لم يستطع، حيث كان يفقد توازنه نتيجة الاحتكاك باللاعبين.
ثلاث سنوات من التدريب على تنس الطاولة، هي كل ما احتاجه حمدتو، وكشخصية عنيدة قرر أن تكون أولى مبارياته بعد التمكن من اللعبة مع من سخر منه حين كان يريد البحث عن رياضة تناسب ظروفه، ففاز على المتنمر بثلاثة أشواط نظيفة
عاد بعدها مجددا إلى الاكتئاب والبقاء في المنزل، لكن خاله وقف إلى جانبه، وكان بالنسبة إليه الطبيب النفسي الذي يقاتل من أجل إخراجه من هذه الحالة، واستعان بأشخاص مبتوري الذراعين ليأخذهم كي يزوروا حمتدو في عزلته، وبعضهم كان يعمل والآخر متزوج وله أبناء، فبدأت حاله النفسية تتعافى لإدراكه أن أقرانه من نفس الإعاقة يمارسون حياتهم بشكل أقرب إلى الطبيعي.
عندما كان متواجدا داخل مركز شباب القرية يشاهد مباراة لتنس الطاولة بين اثنين من أصدقائه، كلاهما تشاجر مع الآخر وادعى أنه فاز في المواجهة، فعرض عليهما حمدتو أن يقوم بدور الحكم، لكنه تعرض لرد جارح من أحدهما، بأنه “لا يفهم في اللعبة ولا يستطيع أن يجيدها، لأنه عاجز وعليه أن يمارس لعبة تتناسب مع إعاقته”.
مثّلت هذه العبارة لحمدتو نقطة الانطلاق نحو إثبات الذات وأنه يمتلك من القوة والقدرة على أن يكون بطلا في تنس الطاولة، واتخذ من التنمر بوابة للتقدم بأسرع ما يتخيل الساخرون من ظروفه الصحية، وقرر أن يتدرب على اللعبة، وعندما نصحه الكثير من أصدقائه بالابتعاد وقد يدخل في نوبة اكتئاب جديدة رفض وتمسك بموقفه.
ولأنه فشل في الوصول إلى مدرب يتناسب مع ظروفه ويؤهله لأن يكون ناجحا قرر الاعتماد على نفسه بشراء مضرب ويكون الحائط هو منافسه يسدد ناحيته الكرة لتعود إليه، وبدأ بوضع المضرب تحت إبطه، لكنه فشل لمرات ثم جاءته فكرة إمساكه عن الفم، وهذه كانت البداية، حيث يرفع الكرة بأصابع اليد اليمني إلى الأعلى، ويضربها عن طريقة المضرب الذي يقبض عليه بأسنانه وشفتيه.
استغرق حمدتو ثلاث سنوات في التدريب على تنس الطاولة، وكشخصية عنيدة قرر أن تكون أولى مبارياته بعد التمكن من اللعبة مع نفس الشخص الذي سخر منه وقت أن كان يريد منه البحث عن رياضة تناسب ظروفه، المفارقة أن هذا الملهم، فاز على المتنمر بثلاثة أشواط نظيفة، وصار حديث بلدته، وبدأت سيرته تأخذ مسار الشهرة داخل المحافظة.
لم يكتف بتحقيق حلم الانتصار على الشخص وكان سببا في التمكن من تنس الطاولة بجدارة، بل قرر إنشاء أول جمعية من نوعها في محافظة دمياط، مقر سكنه، تختص بمساعدة وتقديم الدعم للمعاقين حركيا، ومن خلالها شكل فريقا للعبة التنس، وخاض به بطولة الدور الممتاز وحصل المركز الثاني على مستوى الجمهورية في العام 2012.
استثمر إبراهيم حمدتو قدرته الفائقة على إثبات هشاشة الإعاقة مهما بلغت قسوتها، في أن يكون ملهما لكل الأطفال والشباب الذين فقدوا الذراعين داخل محافظته وقرر تدريبهم على المهارات الرياضية، كل حسب ميوله، وصنع مجموعة من الأبطال ذوي الهمم، وخلق بداخلهم عزيمة التحدي والانتصار وبعضهم حصل على بطولات محلية.
رغم حاجته الملحة إلى المال، بحكم أنه لا يعمل في وظيفة ثابتة، لكنه رفض المتاجرة بكونه صار مدربا مخضرما في لعبة تنس الطاولة أو تدريب المعاقين على امتهان الألعاب الرياضية، وقرر أن يقدم خدماته بشكل مجاني لدوافع إنسانية بحتة، بحكم أنه في بدايات حياته لم يجد من يساعده على تجاوز المحنة.
تظل العبارة التي يرددها في كل لقاءاته التلفزيونية والصحافية، محليا ودوليا، أن “الإعاقة ليست في الجسد، الإعاقة الحقيقية ألا يسعى الإنسان لتحقيق ما يريد من أحلام وطموحات ويستسلم للأمر الواقع، ويوهم نفسه بالعجز وقلة الحيلة، الإعاقة في العقل وطريقة التفكير وليس في فقدان قطعة من الجسد مهما كانت أهميتها، فهناك أجواء أخرى تعوضها”.
حديث مع الكرة

لم تكن رسائل حمدتو مجرد كلمات يرددها للإيحاء بأنه حقق مجدا شخصيا، لكن الإنجازات التي حققها كانت كافية لتأكيد أنه بالفعل نقطة مضيئة لكل من يشعر بالعجز، فهو الذي حقق عدة ألقاب برهنت على عزيمته وصلابته في التمسك بالوصول إلى أبعد نقطة قد يتخيلها كل من يتعاملون مع الإعاقة وكأنها نهاية المطاف. حصد الميدالية الذهبية الشرفية في بطولة أفريقيا لتنس الطاولة ووصل إلى المربع الذهبي في بطولة مصر الدولية لتنس الطاولة وحقق الميدالية الفضية في بطولة أفريقيا لتنس الطاولة وبعد عامين فقط كرر نفس الإنجاز، بالفوز على مجموعة من كبار المخضرمين في اللعبة بالقارة السمراء.
خلال عام 2015، حصل حمدتو على فضية بطولة أفريقيا، ومنها تأهل إلى الدورة البارالمبية التي تم تنظيمها في ريو دي جانيرو بالبرازيل في العام التالي مباشرة، ورغم خسارته هناك، لكنه حظي على إشادة دولية بعدما أبهر العالم بإمكانياته وقدراته، حيث مثل للكثيرين خلال هذه البطولة معجزة في طريقة ممارسة اللعبة التي تعتمد بالأساس على الذراعين.
يقول حمدتو عن هذه اللعبة إنه يتكلم مع الكرة وتسمع كلامه، فلم تخذله أو تحرجه، ولا يجد أي مشكلة في الإمساك بها من خلال أصابع القدم اليمنى، ويشعر بأنه ملك على الطاولة، ومهما استمر وقت اللعبة، فإن قبضة فمه على المضرب لا تتأثر أو تضعف، فقد صار متمكنا بشكل لا يتخيله عقل البشر.
أزمة حمدتو مع القائمين على الرياضة في مصر أنهم لم يولوه الرعاية والاهتمام الكافيين إلا بعد حصوله على إشادة دولية، وقد اعتمد على نفسه، تدريبا وتأهيلا، ولم يكلّف خزانة الدولة شيئاً، وحين ذاع صيته عالميا، عرضت عليه قطر تجنيسه، لكنه رفض
أزمة حمدتو مع القائمين على الرياضة في مصر أنهم لم يوجهوا إليه الرعاية والاهتمام الكافيين إلا بعد حصوله على إشادة دولية، بحكم أنه اعتمد على نفسه، تدريبا وتأهيلا، ولم يكلف خزانة الدولة مبالغ مالية، حتى أنه بعدما ذاع صيته وصار معروفا عالميا، عرضت عليه دولة قطر أن يتم تجنيسه، كما تفعل مع الكثير من أبطال الألعاب الرياضية، لكنه رفض وتمسك بمصريته ليرفع علم بلاده فقط.
كرمه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مؤتمر الشباب الدولي، الذي عقد في مدينة شرم الشيخ قبل أربع سنوات، وقام بتقبيل رأسه واصفا إياه بالبطل الملهم، ومثّل هذا الموقف بالنسبة إليه نقطة انطلاق أخرى نحو التمسك بالوصول إلى أبعد ما يمكن.
كان فقيرا وكل أمله أن يعيش في أسرة مستورة ماديا فصار بإمكانه الوصول إلى رئيس الدولة، ويجلس إلى جواره في المؤتمرات الشبابية، بل إنه حصل على جائزة الإبداع التي منحها السيسي لمجموعة قليلة من الأشخاص، منذ وصوله للحكم.
عندما كرّمه الرئيس طلب منه أن يكون ملهما لكل شباب مصر، ويحفزهم على التفوق ومواجهة التحديات وعدم الاستسلام للصعوبات الحياتية، فوعده بذلك، ولم يتأخر كثيرا عن تنفيذ الطلب، وقرر زيارة الجامعات ليتحاور مع الطلاب ويقص عليهم حكايته، مؤكدا أن الوصول إلى الأحلام سهل شريطة توافر الإرادة والعزيمة.
أكثر ما يثير حفيظة حمدتو أن يستمر البعض في وصفه بالمعاق، رغم ما حققه من إنجازات وانتصارات، أي أن يطلق على المعاقين مسمى ذوي الاحتياجات الخاصة، فهم بالنسبة إليه أصحاب الهمم والعزيمة ولن تكون نظرة المجتمع لهم إنسانية إلا إذا اندمجوا في الحياة، وتصبح هناك إرادة حكومية قوية بعيدا عن أي تمييز.
وإذا كان قد نجح في صناعة حالة استثنائية في مفاهيم الرياضة عالميا، فإنه قدم للكثيرين قدوة حسنة يمكن السير على دربها اجتماعيا ونفسيا، فهو الذي اتخذ من طه حسين، ذلك الكاتب والأديب الذي كان فاقدا لبصره، قدوة له في حياته، فرغم أنه فقد بصره نجح في تحطيم المستحيل، فعاش حمدتو مع قصة الأيام حتى صار ملهما في مجاله الرياضي، مثل كاتبها طه حسين كملهم في الأدب والثقافة.
