أن تكون الحرب أو لا تكون

نحن شهود على واحد من أكثر العهود والفترات التي تعم فيها الفوضى والإرهاب والتجهيل، حيث تم تدنيس القيم الإنسانية بشكل مهيب ومخيف، وتم الإلقاء بكل القوانين والأعراف في الهاوية.
السبت 2024/08/10
"ديستوبي" الشرق الأوسط

لا زلنا نتساءل إن كانت ستقوم القيامة قريبًا في الشرق الأوسط أم لا، أو إننا على شفا الانزلاق إلى الهاوية، وكأننا لسنا في قعر الجحيم الآن! ولكن، كيف سيكون شكل الحرب أفظع مما نشهد الآن؟ طبعًا هناك أفظع.. عام 1945 ألقت الولايات المتحدة، ببرودة دماء، قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي. الولايات المتحدة التي لم تُحاسب على الفظائع التي ارتكبتها حينها. المشهد كان كالتالي؛ ذاب الأشخاص ولم يتبق من بعض الأفراد سوى ظلهم. أتفهم ما أقول؟ أتتخيل؟ إنسان بأحلام وطموحات وحصيلة فكرية وقيمية وعقلية وبتاريخ حافل لا يتبقى منه سوى “ظل”. وكأنما لا قيمة للفرد. تتساءل وجوديًا: أين يذهب الإنسان بروحه وجسده وأفكاره وأفعاله؟ أين يتبخّر ويتم شطبه من حسابات الكون بلحظة؟ في تفجير قنبلة ذرية، يصبح الإنسان سرابًا وكأنه لم يكن.

في شواهد كثيرة من التاريخ البشري كان الإنسان يأكل الإنسان إن جاع، وينكّل بالجثث بشكل مرعب. كان الأوروبيون في جولاتهم في أقاصي البحار يجلبون أفرادًا من عشائر وقبائل مختلفة يتم وضعهم في حديقة إنسان على وقع وسجع حديقة حيوان، وكأنهم أشياء غريبة مثيرة للدهشة للنظر والتسلية. ثم ماذا؟ ثم تم استعباد أهل قارة أفريقيا، وتمت أكبر عمليات جلب لعبيد من القارة الأفريقية إلى الولايات المتحدة. وكانت سنوات طويلة من التمييز والتفرقة والاستعباد. إذا، يا لسذاجة السؤال، هل هناك أفظع مما نشهده في الشرق الأوسط؟ يقول التاريخ: بلى، يوجد طبعًا.

لو حاول السياسيون العمل لصالح الإنسان وللمصلحة العامة مثلا، ولو صمت دعاة الرعب والحرب ووقف العالم في مراجعة ذاتية أخلاقية ورفض أن يُهان إنسان. لكن: كل ما حدث عكس ذلك

لكن، نحن أيضًا شهود على واحد من أكثر العهود والفترات التي تعم فيها الفوضى والإرهاب والتجهيل.. تم تدنيس القيم الإنسانية بشكل مهيب ومخيف، وتم الإلقاء بكل القوانين والأعراف في الهاوية، لا احترام لمؤسسات دولية ولا لأخلاقيات وفلسفات بشرية، كل شيء ما زال مُتاحًا، بشكل فظيع دون حسيب أو رقيب.

ما نشهده في الشرق الأوسط رؤوس مقطعة وظل إنسان وأشلاء أفراد وجثث متحللة وملقاة على قارعة الطريق بلا هُوية. يعيش الإنسان عمرًا كاملًا ليغدو “مجهول الهوية”. انتشار مجاعات، أمراض، تقارير عن اغتصاب، حروب وصراعات وأصوات قذائف لا تهدأ، مياه ملوثة وفُتات طعام وانهيار لقطاع التعليم والصحة بشكل كامل في دول عدة أبرزها غزة. في مشاهد باتت اعتيادية، يهرع الإنسان ويصرخ “أين نذهب”! النساء متشظيات والرجال باتوا أشلاء إنسان، والأطفال مرضى بصدمات نفسية غير قابلة للعلاج، وسيتم توريث الأجيال القادمة عارًا إنسانيًا وأخلاقيًا وإرثًا قيميًا معيبا.

ومن يهتم لكل هذا؟ الولايات المتحدة، روسيا، إسرائيل، إيران؟ من يهتم لكل المشهد الظلامي الشيطاني المسيطر على المشهد، ومن يحاول انتشال الإنسان من قعر الهاوية؟ ثم بعد كل هذا.. ما زلنا نسأل إن كنا على شفا حرب. إن كان كل هذا ليس بحرب فما هي الحرب؟ لا تسئ فهمي، أعلم أن هناك فرصة لحرب أوسع، وأعي تمامًا أنه في احتمالات أخرى من الممكن هدم الشرق الأوسط على رؤوس قاطنيه بشكل كامل. أعلم أن لا حدود للشر.. لكن، ما أقوله: ألا يكفي حرق قطاع غزة، وسحق الضفة الغربية؟ ماذا يريد العالم؟ إبادة شعب كامل، على وقع ما حدث مع الهنود الحمر مثلا؟ نحن في 2024، من المفترض أننا في عالم عقلاني أكثر.

ما أقصده.. ألا يكفي جنوب لبنان المدمر؟ هل علينا أن ندمر لبنانًا كاملًا؟ ألا يكفي العراق المتشظي المخطوف بين قوات أميركية وميليشيات إيرانية، أعلينا حرقه أكثر؟ العراق الذي كان منارة العلم، خُطف وأصبح معقلا مخيفًا لدعاة الرعب، بلا علم ولا أمن. سوريا، مسرح الصراع العالمي المخطوفة من روسيا وإيران وواشنطن والمنهوب نفطها من الولايات المتحدة والمنكل بها من تركيا ومستباحة أراضيها وأهلها من إسرائيل. واليمن المعزول الذي تم تجهيله، وتدميره، ومُنع من الالتحاق بقطار الحضارة والحداثة.

ما نشهده في الشرق الأوسط رؤوس مقطعة وظل إنسان وأشلاء أفراد وجثث متحللة وملقاة على قارعة الطريق بلا هُوية. يعيش الإنسان عمرًا كاملًا ليغدو “مجهول الهوية”

ما المشاهد التي علينا أن نشهدها أكثر مما نشاهد ليصل هذا العالم إلى مراده؟ أكرر، لماذا هذا الحرص على الاستثمار في الكره والخراب؟ ما الحرب التي تُرضي الأطراف المتنافسة في الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ وما المشهد الذي يُرضي سيموتريتش وبن غفير ونتنياهو؟ ما المشهد الذي يجعل إيران تنام في مهدها مُطمئنة؟ أيّ واقع يريدون تعزيزه، وأيّ أهداف اتفقوا في اللاوعي الصامت على تحقيقها؟

في الاقتصاد هناك ما يُسمّى تكلفة الفرصة الضائعة، وما يحدث منذ قرابة عام هو استنزاف لكل الفرص الضائعة، كان من الممكن استثمار هذا العام في بناء دول بدلًا من تحويلها إلى ركام لتقوية النظام التعليمي بدلًا من سحقه وتجهيل الأجيال. كان من الممكن العمل على ضمان وصول الخدمات الصحية لأكبر شرائح ممكنة بشكل أفضل، لا أن ينفد الدواء ويستفحل الداء. كان من الممكن الاستثمار في الأفراد والأرض والأموال بما يضمن معالجة التغيرات المناخية مثلا، استصلاح الأراضي، تخفيف حدة التحديات الاقتصادية، مساعدة الشباب بتحقيق أحلامهم، توفير فرص أكبر، الاستفادة من زهرة أفكارهم وإبداعهم. وأن نساعد في إيجاد إعلام واعٍ مثقف يبني عقولًا وينشر حكمة لا يغذي كراهية وغضبًا وسخطًا ولا يُحاول تعزيز الجهل والرعب والإرهاب.

كان من الممكن أن يكون الواقع أفضل، لو لم يتم دعم دعاة الرعب في كل مكان خلال العقود الماضية، لو تم وضع الأشخاص الصحيحين في المفاصل الإدارية الصحيحة، لو حاول السياسيون العمل لصالح الإنسان وللمصلحة العامة مثلا، ولو صمت دعاة الرعب والحرب ووقف العالم في مراجعة ذاتية أخلاقية ورفض أن يُهان إنسان. لكن: كل ما حدث عكس ذلك.

ما حدث هو الحرص على خلق “ديستوبيا” الشرق الأوسط.

9