أنغام الجاز توحّد ثقافات العالم في القاهرة

القاهرة – حدّدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في العام 2011، يوم 30 أبريل يوما دوليا للجاز، وذلك من أجل إبراز موسيقى الجاز ودورها الدبلوماسي في توحيد الناس في جميع أنحاء العالم، وبمناسبة هذا اليوم العالمي شهدت القاهرة في السادس من مايو الجاري حفلا موسيقيا لموسيقار الجاز البريطاني دان كوستا، حضره جمهور غفير ترجم تعلّق المصريين بهذا النمط الموسيقي القادر على استيعاب أنغام وإيقاعات الشعوب المختلفة.
وهي المرة الأولى التي يحيي فيها دان كوستا حفلا في مصر، لكن الحضور الجماهيري اللافت بمقر “ساقية الصاوي” في حي الزمالك بالقاهرة، يؤكد أن موسيقاه معروفة ومألوفة لدى عشاق “الجاز” من المصريين والأجانب، فالألحان والأنغام لهما، كما الأفكار، أجنحة تتخطّى الحدود.
وتوحّدت أصابع دان كوستا مع أصابع البيانو في طقس ربيعي بدا ملائما لصناعة السحر بأسلوب العزف المتفرّد، وكوستا المولود في العام 1989 في لندن من أصول برتغالية وإيطالية درس العزف على البيانو الكلاسيكي لمدة ست سنوات في جنوب فرنسا، وحصل على شهادة في عزف موسيقى الجاز على البيانو من البرتغال، كما درس الفنون المسرحية في معهد ليفربول.
يوما بعد يوم يزداد جمهور "موسيقى الجاز" حول العالم، فهي الأقرب إلى روح العصر بما تحمله من قيم التحرّر ووحدة الإرث الثقافي الإنساني وتجاوز الحواجز العرقية، وفي القاهرة اشتعلت أنغام وإيقاعات «الجاز» في حفل صاخب للموسيقار البريطاني دان كوستا الذي أقيم مساء الأحد (6 مايو)، بالتوازي مع احتفالات العواصم العالمية باليوم العالمي لموسيقى الجاز، الذي أعلنته “اليونسكو” في العام 2011
سافر كوستا بموجب منحة جامعية إلى ساو باولو لدراسة الموسيقى البرازيلية، وسجّل أول ألبوم له في ريو دي جانيرو بالبرازيل بعنوان “ضعت بدقة”، وحاز به جائزة الموسيقى العالمية في 2016، وحقّق مبيعات قياسية.
جاءت ألحان دان كوستا بمثابة رسالة محبة ودعوة للتواصل الإنساني، فهي منفتحة على الأنغام والإيقاعات البدائية، خصوصا المعروفة في التراث الأفريقي، منفلتة من الهارمونية الأوروبية، لتعتمد على الارتجال واللانسقية واحتضان كافة التيارات الموسيقية الوافدة من حضارات العالم القديم.
وتتجاوز موسيقى دان كوستا، في فلسفتها وعمقها الروحي، مجرد تقديم ألحان وإيقاعات ممتعة، فهي مسكونة بالتأمل والطابع الديني التطهري، محمّلة بتاريخ طويل من إحساس الإنسان بالنغم وعشقه للحركة، مشغولة بهضم الإرث الثقافي والحضاري للبشر في كل مكان.
وفق هذه المعايير، تأتي ألحان كوستا خارج الحيّز الضيق للمحلية، فهي موسيقى الشعوب جميعا، والبشر أينما كانوا، وهنا تتخطّى أهميتها الجانب الجمالي الجذاب الساحر، لتصير موسيقى الجاز رافدا من روافد التواصل الحضاري.
هكذا، يكون للموسيقى دور غير هيّن في إذابة الحواجز الجغرافية والتحرّك فوق خريطة الزمن، بالإضافة إلى دعم المشترك الإنساني وتعزيز التفاهم بين الحضارات وتحويل قيمة الحرية وثقافة السلام من شعارات إلى ممارسات عملية على الأرض ذات طابع جمالي مستساغ.
والتقطت الأمم المتحدة هذه الطبيعة الخاصة لموسيقى الجاز الشفيفة، المتطوّرة، فوصفتها بأنها تلك الموسيقى التي تسهم في دعم السلام والحوار وحرية التعبير والمساواة واحترام حقوق الإنسان، ونبذ التمييز، فضلا عن أنها تعزّز دور الشباب بوصفهم الأمل في الحركة وإحداث التغيير.
ويُذكر أن بدايات موسيقى الجاز الحديثة تعود إلى مدينة نيو أورليانز في ولاية لويزيانا الأميركية، في منتصف القرن التاسع عشر، على أيدي ذوي البشرة السمراء من الأميركيين الأفارقة الذين أطلقوا موسيقاهم الجديدة في صالات الرقص والساحات، دون الالتزام بالنسقية وتدوين الألحان، ثم تطوّرت على أيدي الموسيقيين الغربيين في أميركا وأوروبا، بالإضافة إلى أميركا اللاتينية والشرق الأقصى.
وتعد آلة الساكسوفون من أبرز الآلات المرتبطة بعزف موسيقى الجاز، والكمان والتشيللو والبيانو والترومبيت، بالإضافة إلى أنواع متعدّدة من الطبول وآلات الإيقاع.
تنوعت المقطوعات الموسيقية التي قدّمها دان كوستا في حفل “ساقية الصاوي”، واندرجت كلها في إطار “صوليست بيانو”، ومع ذلك بدت متعدّدة الأصوات، فالعازف يقيم حوارا مع ذاته من خلال العزف، كما أنه يقدّم اللحن والإيقاع في آن واحد بالعزف الفريد الذي يبدو كأنه ثنائي، على البيانو.
وجبة دسمة من موسيقى الشرق والغرب تضمنتها مؤلفات دان كوستا، التي تستفيد من الموسيقى والإيقاعات الأفريقية الكلاسيكية، وموسيقى السامبا البرازيلية، فضلا عن موسيقى الفلامنكو الإسبانية المحملة بالأجواء والخيالات الأندلسية.
وداعب دان كوستا الحضور بقوله إنه تأثر بالروح المصرية كثيرا، وبزيارة الأهرامات، ومقطوعته الجديدة التي يؤلفها ستكون بتأثيرات وإيحاءات مصرية، وتلمّس الحاضرون تأثر عدد من مؤلفاته بالموسيقى العربية أيضا كرافد من روافد تكوينه الفني والمعرفي.
وعلّق دان كوستا على ذلك التأثر بالتراث العربي في أعماله بقوله إن الفلامنكو والموسيقى الإسبانية التي يعشقها لا تخلو من جذور عربية واضحة، وبالتالي فإن موسيقاه مزيج يتسع للشرقي والغربي والعربي والأفريقي واللاتيني والأميركي، لذلك اختار وعاء “الجاز”، فهذا اللون الموسيقي هو المناسب لهذا المزج وتعدّد المصادر.
وتراوحت إيقاعات المعزوفات التي قدّمها الموسيقار البريطاني بين البطء والسرعة، الهدوء والصخب، واتسمت الألحان بقدرتها على شحن الروح بانسيابية عالية توازي إطلاق الجسد في فضاء الحركة والتمايل والرقص، ونسب دان كوستا الكثير من مهاراته وحساسيته الفنية إلى تلك الفترة الخصبة التي قضاها في البرازيل دارسا للسامبا وموسيقى الجاز.