"أم الزلف" موال سري في لوحات محمد خياطة

تقدم صالة “رميل” الفنية في العاصمة اللبنانية بيروت معرضا للفنان السوري محمد خياطة بعنوان “أم الزُلف” وهو المعرض الثالث له بنفس الفضاء بعد معرضين سابقين تعوّد أن يقدّم فيهما الفنان طرافة موجعة، إلاّ أن معرضه الجديد أتى هذه المرة مغايرا تماما، حيث يمكن قراءته من خلال نصين متوازيين لا يتداخلان إلاّ بشكل طفيف.
الجمعة 2017/11/17
أخاديد من عناد وثبات

بيروت – لا تخلو أعمال محمد خياطة من الطرافة الموجعة التي عودنا عليها، غير أن في معرضه الجديد المقام حاليا في صالة “رميل” البيروتية، وربما لأول مرة تبدو الشخصية التي واظب على تقديمها وبلورتها على مدى أربع سنوات، والمتمثلة بكائن دقيق الملامح وسيد على انفعالاته، هي اليوم قد أينعت لتستقر على عرش من السكون المُصدّف بيوميات كل ما فيها بصريّ وشائك.

يقدم الفنان السوري محمد خياطة معرضه المعنون بـ”أم الزُلف”، بهذه الكلمات “أم الزُلف، هي أغنية تغنى مطولا عند القيام بأعمال تحتاج إلى وقت طويل.. كما تُغنى هذه الأغنية احتفالا بعيد الربيع في شهر مارس/آذار”.

ويضيف خياطة “سردت مشاهد مُختلفة لحياة القبائل وسكان مدن الفرات، وموسيقاهم الجميلة.. أما الفكرة من المعرض، فهي تقوم على إحياء منطقة حوض الفرات ومحاربة فكرة الموت، بالرغم من أنني لم أزر منطقة حوض الفرات، ولكن منذ أكثر من عام توّلدت لديّ مع بعض الأصدقاء من فرقة الصعاليك الموسيقية فكرة تجديد أغاني التراث، وبدأنا نتعرف مجددا على تراثنا عن طريق الموسيقى، موسيقى حوض الفرات كانت الأكثر أهمية بالنسبة لي وقد شدّتني إلى التعرّف أكثر على أنماط موسيقى أخرى كالمولية والميمر.. وكنت طوال هذا العام أرسم اللوحات متأثرا بهذه الموسيقى التراثية وبعض ممّا قرأت عن حضارات حوض الفرات وعن طبيعة القبائل وحياتها خلال المئة سنة الماضية”.

بدا معرض الفنان كشريط مصور بدقة ورقة رسوماته وتقشف خطوطها التي أغنت من تعبيريتها وقدرتها على التأثير في عين الناظر إليها، شريط مصور انتقى محطات ليسرد مشاهد بسيطة من الحياة اليومية وقد توقفت للحظات، وكأنه يلتقط لها صورا فنية موثقة لها وللأعمال التي كانت مأهولة بها، وذلك مهما بلغت هذه الأعمال من بساطة كفعل الجلوس أرضا والانصياع المُسالم لبطء مرور الزمن، نذكر من هذه اللوحات، خاصة تلك التي تحمل هذه العناوين “امرأة بدوية”، و”العنود” و”رجل بدوي”.

يعثر المُشاهد في المعرض على كل ما ذكره آنفا الفنان محمد خياطة، يعثر على اللحن المُغنى وعلى الآلة الموسيقية المُستخدمة في لوحة أساسية تحمل اسم “كذ لى”، لكن زائر المعرض يجد ذاته أمام نص ثان أكثر شمولية وأهمية أرّخ الفنان من خلاله اسم “أم الزُلف” على المرأة البدوية وغير البدوية المجسدة في اللوحات.

أما الشخصيات الذكورية في اللوحات مثلما هو الحال في لوحتين تحملان عنوانين هما “العامل” و”الفلاح”، فهي ليست إلاّ شخصيات رديفة تُشبه “أم الزُلف” أو هي صدى لها، تدور في فلكها وفي فلك انشغالها بحياتها وتأملاتها اليومية.

هدوء المعتاد على الأزمات

ثمة مفارقة في اختيار الفنان لهذا الاسم، وهذا يعطي من دون شك بعدا جديدا لأعماله، لأنها معروضة في صالة لبنانية في قلب بيروت، فتعبير “أم الزلف”، أو “أبوالزُلف” غالبا ما أُسند شعبيا إلى كل شخص مُتراخ ويعيش على وقع شدوه لموّاله الخاص دون مُراعاة لخواطر وشجون الآخرين.

ومن هذا المنظار بالذات تبدو شخصيات الفنان محمد خياطة منهمكة في أعمالها اليومية غير مكترثة بما يحيط بها أو يمسّها من كوارث أو مخاطر، بل متعايشة معها، فحمل خيمة، كمكان مؤقت للسكن ليس بحمل ثقيل يحمله بطلا اللوحتين المعنونتين بـ”الفلاح” و”العامل” على رأسيهما، في وسط صينية، كما يبدو الخنجر أو السكين المرسوم في يد “البدوي” مُلتبس المعنى، فهو عادي جدا وموجود بهدف استخدامه في أعمال يدوية، أو في مناسبة تقليدية ما، ولكنه سكين قادر بكل سهولة على أن يكون في قبضته شعارا للمعاناة الشخصية المكتومة وللعداء المُلطّف تجاه الآخر الذي سيريد به شرا.

أما اللوحة التي تحمل عنوان “سيزيف”، فهي تقدم ساكن اللوحة بهدوء قدري وبقميصه الأزرق، يضع يده على خده في انتظار هجرة جديدة إلى بلد جديد وإلى جانبه حقيبة سفر صغيرة الحجم كمعظم الأشياء التي يرسمها الفنان في لوحاته، أي أصغر بكثير ممّا هي عليه في الحقيقة، فالأشياء أو الكائنات “الفرعية” مهما بلغت أهميتها يبقى المهيمن الوحيد عليها هو هدوء وضخامة رؤوس شخوصه خفيفة الظل وذات النظرات الصغيرة والثاقبة في آن واحد.

ويبدو الهدوء الذي تبثه شخصيات اللوحات في نفوس المشاهدين أثرا لا يُراد الإفلات منه، إنه هدوء المعتاد على الأزمات والمتعامل معها على أنها جزء لا يتجزأ من المعاناة اليومية، ربما هذا ما توحي به تلك الحواجب الرفيعة، ولكن المعقودة فوق عيون شخوصه وكأنها أخاديد من عناد وثبات لا تفقه للضوضاء معنى.

وفي هذا السياق أيضا تظهر زهرة شقائق النعمان، التي تنتشر كثيرا في بلاد الشام في بدايات الربيع وترمز إلى الشهادة والتضحية، في لوحة تظهر فيها امرأة تحمل في يد الزهرة وفي يدها الثانية منجلا صغيرا، حيث أخذت تلك الزهرة الحمراء حيزا ضئيلا جدا في يد شخصية اللوحة، كذلك الأمر بالنسبة للمنجل، ولكن دون أن ينتقص ذلك شيئا من رمزية الزهرة وأهمية حصادها في تحريك معاني لوحة شديدة الهدوء وتحمل اسم “الزهرة” كعنوان لها.

17