أمينة فاخت.. بين الجنون والإبداع أغنيةٌ تونسية

لا شك أن تونس تضم أصواتا غنائية عديدة رائعة، لكن ما تقدمه الفنانة التونسية أمينة فاخت لا تقدمه فنانة غيرها، وهي التي لا تهدي جمهورها أغاني فقط، بل تهديه عرضا فرجويا متكاملا هي بطلته بامتياز.
تثبت كل مرة تغني فيها أن “الغناء هو بمثابة مهرجان للأكسجين”. تلك هي فاخت التي أقرت “أنا سلطانة غرام أنا يلي تلعب بالكلام”. لا تجيد الديفا اللعب بالكلمات فقط هي تجيد أيضا اللعب بالحركات وبالجمهور إنها سلطانة الركح الأولى في تونس، التي تقول دوما “لم أغن يوما حتى أكون أفضل من أي فنان آخر، بل أغني لأعطي أفضل ما عندي”.
فاخت أنثى صاخبة بكل ما في الكلمة من معنى. توصف بالجنون أحيانا وبالإبداع كثيرا لديها طقوسها الخاصة في حفلاتها، تلبس ما خفّ من الفساتين التي تكشف جسدها ليتحرر صوتها القوي، تفرد شعرها بإهمال أحيانا، وقد تسدله ضفيرة بسيطة أحيانا أخرى. لا حرج إن نزعت حذاءها على المسرح إذا ضايقها. وقد تستلقي على المسرح أيضا بل وأكثر.
تراث محدود
لا تغنّي فقط بل تحدّث جمهورها. لا يهمّ ما الموضوع حتى ولو كان طبق المقرونة الحارة الذي أعدته. يعشق جمهورها حديثها كيفما كان، ويرفض مغادرة المسرح أحيانا بعد انتهاء الحفلة، ويهتف عاليا “ماناش مروحين”.
في حفلتها ضمن الدورة الـ54 لمهرجان قرطاج الدولي التي أعلنت بها عودتها إلى الغناء بعد انقطاع دام عقدا من الزمن، تعالت أصوات الجمهور مردّدة “موعدنا أرضك يا بلدنا” وجاء الردّ سريعا من “الديفا” تلبية لرغبة جمهورها.
تقول فاخت إنه لا يمكنها التقيّد ببرنامج الفرقة الموسيقية فهي وفية لما يطلبه الجمهور لا غير. وتراوح في حفلاتها بين الأغاني الطربية والأغاني التونسية، فتؤدي “على الله” ورائعتها “سلطان حبك” و”اسألوا قلبي وعنيا” و”أنا هويت” التي لحنها لها الموسيقار المصري بليغ حمدي مطلع التسعينات. تغني أيضا “عالجبين عصابة” وتردّد كذلك الأغاني التراثية على غرار “أش خصني كان ربي عطاني” و”يمّا ع الماشينة” و”مستغربين حالي”.
رغم ذلك كله يعتبر الفنان سمير العقربي أن فاخت لم تترك شيئا كبيرا للذاكرة الموسيقية التونسية نظرا للعدد المحدود جدا لأعمالها الموسيقية. وهو الذي تعامل معها في عدة أعمال فنية من بينها “سلطان حبك”. عن سرّ جنونها على المسرح، تقول فاخت إنها تتصرّف بكل عفوية وتلقائية، وأن كل ما تقوم به “نابع عن إحساس قوي وتفاعل كبير بينها وبين الجمهور”. وتضيف “كل ما أقوم به هو كتلة من الحب العفوي. المسرح فضاء للرقص والفرح.. وأنا أتفاعل مع الجمهور وطاقتي أستمدها من تفاعله معي ومع الأغاني التي أؤديها”.
ولدت فاخت في العام 1968. وكانت انطلاقتها في الثمانينات. سافرت في بداية التسعينات إلى مصر وغنت لأبرز الملحنين العرب من بينهم المصريين بليغ حمدي والسيد مكاوي والتونسي عبدالحميد بن علجية، وعادت إلى تونس بعد ثلاث سنوات.
غنت على ركح مسرح قرطاج الأثري لأول مرة عام 1999. وهي تمتاز بحضور ركحي كبير مما يثير حفيظة المحافظين في أحيان عدة وغيرة المنافسين في أحيان أكثر. وذاع صيتها في البلدان العربية، إلا أنها لم تواصل في الغناء على الصعيد العربي.
قيود السياسة
فاخت امرأة اكتفت بشهرتها في بلدها. ولم تسع إلى الهجرة خارج حدود الوطن، لم تغيّر لهجتها واكتفت بـ”نحبّكم”. لم تغرها كلمات المشرق والشهرة العربية، لكن رغم ذلك فهي “معشوقة الجماهير” في بعض البلدان العربية، في العراق مثلا أين أحيت حفلتين في التسعينات.
وعن تلك الحفلة، تقول إن مدير التلفزيون العراقي تابع حفلتها في مهرجان قرطاج وعاد إلى بلاده يحمل شريطا مسجلا لحفلتها أذيع باستمرار على التلفزيون العراقي حتى أصبحت نجمة جمهور عريض في العراق.
لم تستدرجها الشهرة ورفضت الغناء مع الفنانة السورية أصالة. روت أصالة نفسها الموقف وكيف كانت تريد الدخول إلى تونس من بوابة فاخت وحين كان “الديو الغنائي” موضة دارجة جدا اتصلت بها لتعرض عليها الغناء معها لتجيب أم أمينة إن “ابنتها نائمة ولن تستطيع مخاطبتها”.
تعرضت فاخت للهجوم بعد ثورة العام 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي من قبل أشخاص مجهولين بقصد انتمائها وقرابتها من العائلة الحاكمة، فغادرت تونس نحو باريس. اختفت عن الساحة لمدة، لكن ظل اسمها حاضرا، وفي كل دورة من مهرجان قرطاج يكون السؤال الرئيسي للجمهور هل هناك حفلة لأمينة؟
وعاد اسمها ليرتبط بالسياسة مرة أخرى، في الانتخابات الرئاسية الماضية، حيث وجدت فاخت نفسها مجبرة أيضا على نفي علاقتها بحركة النهضة الإسلامية بعدما تردد أنها تساند مرشح النهضة للرئاسة عبدالفتاح مورو. وتوجّهت “فنانة الشعب” بالاعتذار لهذا الادعاء المزعوم كما كذبت وبشدة هذا الخبر واعتبرته “نوعا من أنواع استغلال الفنّ والفنّانين لأغراض سياسويّة”.
ترجع ابتعادها عن الساحة الفنية منذ الثورة التونسية إلى “سوء معاملة الإعلام لمسيرتها الفنية من خلال تقديمها في صور مسيئة لشخصها”، وفق تعبيرها. وتقول إن الصور التي كانت تلتقط لها أثناء مختلف حفلاتها، هي التي تسببت في اختفائها عن الميدان الفني. وقد توجهت أمينة باللوم إلى المصورين، معتبرة أنهم كانوا يتعمدون تصويرها من زوايا تبرزها في مظهر ربما غير لائق في أعين جماهيرها.
تظهر فاخت تسامحها مع وسائل الإعلام. وتقول “يظلمونني ويجرحونني وأسامح.. هناك قناة تلفزيونية مثلا سمحت لها بتصوير 3 دقائق من حفلي في الحمامات. فسرقوا ساعة ونصف الساعة وصوروا خلسة وبثوا كل شيء. ظهرت كما أنا بعرقي وتلقائيتي وشكلي.. دون مراعاة لحقوقي واحترام لصورتي وكرامتي”. وتتابع “مؤخرا شاهدت صحافيا يقول إن أمينة صوت كبير في شخص صغير. ظللت أبكي أسبوعا. أنا إنسانة لي كرامة ولست تمثالا”.
ورغم ذلك تصر على أنها متمسكة بصون حرية التعبير وتدعيمها بكل الجهد وتحصينها من المزالق، إلا أنها لها موقف مبدئي من الإعلام الفاسد الذي أعلنت القطيعة معه منذ 20 عاما، حيث ظلت ترفض على امتداد عقدين الظهور في البرامج التلفزيونية وقبول دعوات الاستضافة إليها وحتى المرات النادرة التي ظهرت فيها لم تكن راضية عنها وأكدت أنها طلقت البرامج التلفزيونية منذ رحيل الإعلامي التونسي اللامع نجيب الخطاب وازدادت قناعة بتدحرج الإعلام إلى الحضيض بعد الثورة فهو يتفانى في خدمة الفنانين الأجانب وتلميع صورهم ويقلل من شأن الفنانين التونسيين ولا يستضيفهم سوى للسخرية منهم أو التقليل من شأنهم بدعوى اللهث وراء ‘البوز’.
وتضيف فاخت أن الإعلام فضفاض في مجمله يسير وفق أجندا خفية لضرب الهوية التونسية وقتل الإبداع ويشجع على الرداءة ويستثمر في مآسي الناس وفقرهم ومشكلاتهم الاجتماعية، فلا يقدم القائمون عليه إلا صورة مشوهة عما يعتبرونه واقعا غايتهم من وراء ذلك تكديس أرباحهم وتصفية حساباتهم.
غارقة في حب الوطن
صورت فاخت بمناسبة عيد الجمهورية يوليو الماضي فيديو كليب للنشيد الوطني الرسمي في ثوب جديد شاركها في أدائه كل من الفنانين لطفي بوشناق وصابر الرباعي وعزف الأوركستر السمفوني التونسي وطاقم الموسيقى العسكرية.
وحسب قولها، لا تفوت فرصة لتؤكد محبتها الصادقة للجمهور ولتونس مشيرة إلى أن بصمتها الفنية وخصوصيتها في الغناء وصدقها الخالص في الأداء من أبرز العوامل التي ساهمت في ترسيخ علاقة وفاء وإخلاص مع جمهورها رغم طول غيابها عنه.
تتحدث فاخت كثيرا عن حبّها لتونس الذي جبلت عليه منذ نعومة أظفارها ووصيّة أمها لها بأن تخلص في عشق الوطن. ولم تمسك نفسها عن البكاء عند التعريج على وضع البلاد وحصد الإرهاب لأرواح الأبرياء. وفي هذا السياق أعلنت عن قرارها بتخصيص نسبة من مداخيلها المتأتية من حفلاتها في المهرجانات الصيفية لفائدة عائلات شهداء المؤسسة الأمنية.
يصح إطلاق عبارة الظاهرة على هذه الفنانة في تونس، إذ أثبتت جدارتها في بلد لا يعطي فنانيه حقهم، ولعل تصريح مدير الدورة الـ55 لمهرجان قرطاج الدولي مختار الرصاع وهو يصدح بأعلى صوته بأن الفنان التونسي غير قادر على ملء مسرح المهرجان الأثري خير دليل على ذلك، رغم أن الفنانين التونسيين بقوا هنا متشبثين بتونس يرفعون راية الأغنية التونسية ويحفظون ذكرياتها حتى تبقى الأغنية التونسية عنوان الهوية، لكن للأسف ليس من بينهم أمينة جديدة.