أما آن لهذا العالم أن يستيقظ

منذ بدْء تطور وعي الإنسان وإنشائه لأولى المدن البشرية، وفي اللحظة التي أدرك فيها الإنسان الفروق الجسدية والنفسية بينه وبين الآخرين والمميزات التي قد يمتلكها أحد أكثر من الآخر، تحول إلى خصخصة الممتلكات وتقسيمها. ثم برزت نزعات المرء الشيطانية من السطوة والسيطرة والقسوة والسلطة والجبروت واستعباد الآخرين. فبدأت تبرز مجتمعات تحيد عن القيم الإنسانية من العدالة والحريات والسلام والتوازن والحكمة.
أصبح جل ما يفعله البعض تعظيم امتيازاته ومميزاته بادعاء أفضليته الجسدية والشكلية والعرقية والدينية والفكرية وغيرها من الأسباب التي تجعله يتفاخر بأفضليته. ثم بدأت الصراعات الداخلية والخارجية. فقامت المجتمعات البشرية على الإقطاعية والعبودية، التي يبدو أنها مستمرة معنا حتى اليوم لكن بشكل مختلف وقوالب تبدو عصرية.
إن النظام البشري لطالما كان في أغلب الفترات قائمًا على أساس الأفضلية للنخبة، العامة تعمل لدى النخبة، وكأن العامة مجرد خدم للنخبة. ويتم تشتيت العامة بقضايا جانبية، يعملون ليل نهار لنيل فتات قوتهم، ثم انشغالهم في صراعات غالبًا بوصفهم متأثرين وأدوات لا مؤثرين وقادة.
◄ الإنسان يعي بأن قدراته ومهاراته في الإدارة تمنحه الفرصة والقدرة على محاولة تسيير الأمور وإيجاد الحلول للمصلحة العامة، من أجل قيادة دفة السفينة نحو الخلاص
وبالرغم من التاريخ البشري الممتلئ من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب بالثورات على العبودية والسلطات، وعلى الظلم والجبروت واللاعدالة، وبالرغم من محاولات الكثيرين على مر التاريخ القديم والحديث لتحرير الناس من الرق واللاإنسانية، إلا أنه يبدو أننا مازلنا نقبع في عالم تابع، ويبدو أننا لم نتحرر بشكل يكفي لاحترام الإنسان وحريته وكينونته وحقوقه، وإحلال عالم ساكن مسالم.
لكن من وضع هذا القانون؟ ولماذا على مدار آلاف السنوات مازال حتى اليوم، بالرغم من كل الوعي والإدراك والتطور التكنولوجي والمعرفي لدى الإنسان، يتصرف بالطريقة ذاتها؟ ومازالت الكثير من مدنه وحضاراته قائمة على المبدأ ذاته؟ أي مبدأ؟ التبعية والعبودية والظلم واللاعدالة.
من قال إن هناك شخصا أفضل من شخص آخر؟ المثير للاهتمام أنه تم تعزيز هذه الأفكار بنزعات دينية وفلسفات روحانية عبر عقود طويلة ما جعل الإنسان أداة خطيرة بيد الأنظمة. أليس من المفترض أن الناس سواسية في شكلهم وقدرهم؟ لكن لماذا لا نجد ذلك في سلوك المجتمعات؟ أليس من المفترض أن يكون هناك توزيع عادل للموارد والفرص والحقوق في الحياة؟ لماذا لا نلمس ذلك في الكثير من الدول والمجتمعات؟
ألم يخرج الإنسان بأفكار وأديان وأيديولوجيات وإيمانيات قائمة على تحرير الإنسان بأن لا أفضلية لإنسان على آخر على حسب دين أو عرق، ولا أفضلية لآخر بسبب قدراته الجسدية؟ وألا تدعي المجتمعات والدول قيامها على أساس هذه الإيمانيات والأفكار؟ لماذا لا نجد جوهر الأديان إذًا في السلوك المجتمعي وجل ما نلمسه طقوس سطحية أو خطابات متطرفة عنيفة؟
في العودة إلى علم الأديان والميثولوجيا، ستجد أن الأنبياء أو الرجال الصالحين كانوا بشكل أو بآخر أشخاصًا أكثر وعيًا من العامة، أشخاصًا غير راضين عن سير المصفوفة، أشخاصًا قادوا ثورة على أنظمة عبودية تعزز اللاعدالة بين الأفراد، أنظمة تظلم البشرية، أنظمة تحرم الإنسان من حقوقه وتعظم سطوة السلطان، الفرعون، القيصر.
◄ النظام البشري لطالما كان في أغلب الفترات قائمًا على أساس الأفضلية للنخبة، العامة تعمل لدى النخبة، وكأن العامة مجرد خدم للنخبة
الحضارات البشرية كانت تقوم، بشكل فوضوي لاعادل وغير حضاري ولاإنساني، بتجهيل العامة وترهيبهم وتشتيتهم وتخويفهم، ومازالت مستمرة في ذلك، وإقناعهم بأن عليهم أن يعملوا لدى النخبة، بالإضافة إلى أن من يمتلك المعرفة والأدوات المتطورة أعطى لنفسه الأفضلية والأحقية في استعمار الجميع وتوزيع الموارد حسب رؤيته، وتصنيف الأفراد حسب بصيرته ونظرته.
إن هذا النظام العالمي ليس بجديد. وأتساءل: متى يمكن أن يبدأ الإنسان بكسر المصفوفة؟ إن الفساد والفطرة المشوهة للأفراد والسلوكيات المنحرفة وحدها ما يشوه المجتمعات بشكل مستمر، ووحدها ما يعزز الحروب والصراعات، ويخلق مجتمعات فاسدة فوضوية، تعمق اللاعدالة وتعزز واقعًا مظلمًا.
على الإنسان، كل الإنسان، أن يعي قوته وأهميته، أن يعمل على فتح بصيرته وتطوير إدراكه، أن يلتزم بأخلاقيات وقيم بشرية متطورة وحضارية. حين يتحد الناس المستيقظون الواعون والمدركون، حينها فقط يمكن تشكيل قوة هائلة أمام النخبة الأقلية التي لطالما أعطت ذاتها الحق في رسم واقع الجميع.
حين يبدأ الأفراد بقول “لا” لنظام عبودي استهلاكي، والبدء بمحاولة تعزيز الشفافية والنزاهة واحترام حدود الآخرين والتنوع، حين يبدأ الأفراد بقول “لا” للتبعية لأحزاب وأفراد بشكل متطرف وغير واعٍ، “لا” للاستمرار في صراعات لا متناهية، وحروب عبثية، حينها تبدأ الثورة الحقيقية والبدء برسم نظام عالمي “مختلف” وأقل تطرفًا وجحودًا وظلمًا.
وربما حينها ينهار المنهج المعهود، المستمر في تجهيل العامة وقيادتهم إلى الجحيم ومصيرهم المجهول باستغلال ضعفهم ومخاوفهم ووهنهم لخلق واقع مأساوي وسرقة الفتات من أفواههم. وحينها أيضا يبدأ انهيار الدستور القائم على تمتع النخبة بكامل الرفاهية وفرصة عيش تجربة أرضية غنية بالمعرفة والتجارب في مقابل الملايين ممن يعانون من المجاعة والأمراض ويعيشون في ظروف لا تليق بأي كائن حي، ملايين تُسلب منازلهم وأموالهم وحاضرهم ومستقبلهم، وتُستبدل بمياه معكرة وخيام ممزقة.
◄ أصبح جل ما يفعله البعض تعظيم امتيازاته ومميزاته بادعاء أفضليته الجسدية والشكلية والعرقية والدينية والفكرية وغيرها من الأسباب التي تجعله يتفاخر بأفضليته
من فلسطين إلى لبنان والسودان والعراق وسوريا وأفغانستان والأمثلة كثيرة؛ إذًا، ألا يستيقظ هذا العالم؟ أن يفكر العامة في كسر الأصنام لمرة واحدة في حياتهم دون استبدالها بأصنام مختلفة؟
يقول أبراهام لينكون “لأني غير مستعد لأن أكون عبدا فإني لا أرضى أن أكون سيدا أيضا”. لذلك من يريد كسر لعنة مسرح تحريك الدمى بربط الأفراد بخيوط يحركها كبار القوم؟ ومن يريد المساهمة في تغيير أكواد المصفوفة التي تقوم عليها المجتمعات البشرية بتوسيع الفجوة بين النخبة المستفيدة المتنعمة بتجربة بشرية غنية والغالبية التي تُصبح مجرد أدوات لها، تغذي حروبها وصراعاتها غالبية مستهلكة تُعظم دور الشركات وحيتان الأموال في العالم؟
إذا أراد المرء تغيير سير التاريخ البشري فعليه أن يبدأ بنفسه، أن يعي بأنه بدايةً عليه ألّا يكون “تابعًا” لصنم، صنم ديني، سياسي، فكري. وحين يتم وضعه في “مفصل” إداري، يسمح له بتقرير مصير كثيرين، عليه أن يكون عادلاً منصفًا نزيهًا أمام نفسه والآخرين.
أن يعي الإنسان بأن قدراته ومهاراته في الإدارة تمنحه الفرصة والقدرة على محاولة تسيير الأمور وإيجاد الحلول للمصلحة العامة، من أجل قيادة دفة السفينة نحو الخلاص، لا لتصطدم بأول جبل جليدي يواجهها، فيهلك الجميع ويُنقذ “هو” نفسه بشكل أو بآخر في محاولة للحصول على امتيازات. أن تُوضع في مكان القيادة، إن كان ذلك في عائلة أو في شركة أو دولة، أي أن تعمل، لا أن تنشغل بلملمة الغنائم ومحاولة الانضمام إلى “كبار القوم”.
حين تُمنح فرصة المساعدة على بناء سفينة نوح عليك أن تُشرك الجميع في ذلك وتسمح لهم بالصعود، لإنقاذهم من الطوفان القاتل الذي يتجلى في كل التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية المتعاظمة، التي تستمر في هدم المجتمعات البشرية رويدًا رويدا.