أعمال بيروتية معاصرة تحلل الإحساس بالفقد والخسارة

تجارب شخصية تقدم قراءة جديدة في الفن المفهومي.
الأربعاء 2023/05/17
تقشف لوني يشبه عمق الشعور بالخسارة

يبعث الإحساس بالفقد والخسارة لدى الإنسان الشعور بالانكسار، لكنه إن امتلك روحا فنانة فإنه امتلك فرصة لا تمنحها الحياة للجميع ليحول انكساراته وذكريات كل ما يفتقده إلى أعمال فنية تصور مدى قدرة الإنسان على التأقلم مع مشكلات الحاضر وطبيعة سلوكه ومشاعره في التعامل مع الفقد. وهذا ما يعبر عنه معرض “عن الفقد والخسارة” المنعقد في بيروت.

قدمت صالة “تانيت” اللبنانية معرضا تحت عنوان “عن الفقد والخسارة” ضم مجموعة أعمال فنية تنتمي بشكل عام إلى الفن المفهومي رغم حضور الفن التشكيلي في بعض الأعمال التي جاءت شديدة التقشف من ناحية الألوان والخطوط.  

الناظر إلى المعرض سيجد وحدة وتجانسا ما بين الأعمال إن من ناحية الشكل أو المضمون بالرغم أنها أعمال تنتمي إلى أكثر من فنان. "عن الفقد والخسارة" هو عنوان للمعرض الذي أقامته صالة “تانيت” اللبنانية وضم عدة أعمال لفنانين لبنانيين منهم إلياس نفعة والفنانة ليتيسيا حكيم والفنان طارق حداد.  

ليس من الدقيق القول إن المعرض هو معرض جماعي إلا من ناحية حضور أكثر من اسم فنان مُشارك. فهناك تكامل متين جدا بين الأعمال بحيث بدا كل عمل وكأنه تتمة أو صدى للعمل الآخر. 

تختلف الأعمال المعروضة كثيرا من ناحية قيمتها الفنية ومعظمها يعيد طرح سؤال حضر منذ أكثر من عشرات السنين حول ماهية الفن المفهومي. وبعد مرور سنوات كثيرة عن هذا السؤال تجدد وتشعب إلى سلسلة من الأسئلة التي غالبا ما كانت تُطرح على أنها إجابات. إجابات من أهم مميزاتها أنها عرضة للتبخيس والتحوير ما بين فترة وأخرى وبنفس الضراوة.  

◙ بياض فلسفي يصور شعور السقوط
◙ بياض فلسفي يصور شعور السقوط

وبات من المؤكد، كما هو بالنسبة إلى الكثير من الأمور في عالمنا المعاصر، أن حصر ماهية الفن المفهومي وما يمثله هو آخر ما يهم أهل الفن بشكل عام وهذا مفهوم تماما مع ما يحدث من تمييع لافت للحدود بين مختلف أشكال الفن. إضافة إلى ذلك ليست هذه اللامبالاة إلا جزء لا يتجزأ مما آل إليه العالم تجاه كل شيء وكل أمر مهما كان أمرا جللا. 

وكي لا نكون على قدر مبالغ فيه من التشاؤم أو التخاذل، إذا صح التعبير، نقول إن السؤال الوحيد الذي صمد حول ماهية الأعمال الفنية المفهومية مصحوب عادة بإجابة ليست في حقيقتها إلا سؤال آخر: أليس من الأفضل قراءة ما يُراد تصويره في الأعمال عوضا عن رؤيته في أشكال غالبا ما تفتقر إلى ما يُلفت المُشاهد بصريا؟ 

أعادت الأعمال التي عرضت في صالة “تانيت” تلك التساؤلات وصولا إلى السؤال – الجواب الأخير الذي أوردناه آنفا. يذكر البيان الصحفي الذي وضعه القيمون على الصالة لمرافقة المعرض “يضم المعرض أعمالا تتناول الجدلية ما بين القدرة وإحساس الفقد. وهي أعمال تستمد مواضيعها من التجارب الشخصية للفنانين إلى التجارب الجماعية التي يعيشها وعاشها أهل البلد”. 

ويضيف “تدفعنا الأعمال إلى أن نتأمل في الدينامية التي تنعقد عادة بين مختلف أنواع وأشكال القوة والسلطة بمفهومها السياسي، وتأثيرها على تجاربنا الشخصية والعامة وعلى مشاعرنا وذكرياتنا وآرائنا حول معنى الخسارة والفقد وبالتالي على نشأة واقع السياسي مُشبع بشتى أشكال الارتقاء والتردّي دوريا عبر تاريخ من الأفعال وردّات الأفعال وغيابها في أحيان أخرى”.  

قد يحلو لعدد كبير من المُشاهدين الانزلاق إلى الاقتناع  بما يذكره البيان تقديما للمعرض. أما البعض الآخر فسيعثر على بضعة أعمال تستنهض وتدعم ما ذكره البيان الصحفي، فيما البعض الأكثر فيكاد يكون اضمحلالا لأي معنى إلا الرغبة في الإيهام بمعنى مّا لم يستطع أن يستوفي الشروط البصرية اللازمة والمطلوبة بالحد الأدنى اللصيق بأي عمل يفترض أن يكون فنيا – بصريا.  

من  بين هذه الأعمال التي لم تستوف الشروط الفنية هي التي أرادت أن تعبر عن حالة الفقد وتظهير الأثر عبر “شحنة” من التجعدات لمسطح ورقي غلبه اللون الأبيض. ويذكر أن توظيف اللون الأبيض وآثار الأشياء أو بصماتها على مسطحات من قماش أو ورق أو ما يشبه ذلك من الأعمال ليس جديدا على عالم الفن المفهومي فقد سبق أن أنجزت أعمال فنية ناجحة قام فيها الفنان بإفراغ الأشياء أو الأشخاص مما يميزها وطلاها بالأبيض الشبحي، الذي لا يعكس ما يحيط به، لتظهر قابعة ما بين الذاكرة وحالة الفقد. 

◙ الأعمال المعروضة معظمها يعيد طرح سؤال حضر منذ أكثر من عشرات السنين حول ماهية الفن المفهومي

وعُقد في تجاور تلك الأشياء المبهمة الوصال ما بين خاصية الأشياء التجريدة وعلاقتها الواقعية مع بعضها البعض.  إلى جانب الأعمال التي يمكن اعتبارها لم تنجح من الناحية البصرية بغض النظر عن الأفكار المطروحة نذكر أعمال أخرى لها قيمة في فنيتها ومضمونها. من تلك الأعمال ما قدمته الفنانة - المصورة سابين صفير التي شاركت بصور فوتوغرافية طغت أثيريتها على واقعيتها الفجة فأخذت بالمُشاهد إلى عوالم الأفكار والمشاعر التي أرادت أن تعبّر عنها. 

أما الفنّان إلياس نفعة وأعماله الغائصة ببياض “فلسفي” فأظهرت فجيعة السقوط والتلاشي وبالتالي نفذت إلى الإحساس بالفقد الذي اختبره شخصيا، وأشار إليه البيان الصحفي بهذه الكلمات التي ننقلها هنا بتصرف “يأخذنا إلياس نفعة إلى أجواء شعائر جنائزية هي في عمق السقوط نحو القاع ونحو خرائب ما بعد الحريق الذي أطاح في أراضي الطفولة وكذلك بعد وفاة جده.. في لوحات نافرة يلامس الفنان العلاقة المتشنجة ما بين الإحساس بالتحرر من الماضي ومن الجذور والإحساس بالفقد والضياع.. تطرح أعماله سؤالا مُلحّا: كيف يمكن أن نقيم أصول السلام ما بين مشاعر متناقضة وشائكة حيال الفقد والذكريات والمشاعر التي تجتاحنا؟”.

أسئلة تطرحها أعماله ولا حاجة إلى أيّ إجابة عليها. فليس على الفن أن يقدم أيّ أجوبة بقدر ما عليه أن ينفض الغبار عما انكفأ بعيدا عن النظر أو عن الوعي أو عمّا لم يكفّ عن الحراك والنغل في النفس البشرية.  معرض “عن الإحساس بالفقد و بالقوة” استحق مشاهدته، على الأقل لأجل الاطّلاع على كيف يمكن أن يكون الفن المفهومي على درجة عالية من الأهمية الفنية، وكيف يكون مجرد هرطقة تدّعي الانتماء إلى عالم الفن.‏

◙ شحنة من التجعّدات
◙ شحنة من التجعدات

14