"أصوات" أنطونيو بورشيا كتابة شذرات خارج التصنيف

في كتابه “أصوات” مزج أنطونيو بورشيا ببراعة فريدة بين الشعر والتأمل الفلسفي والحدوس العميقة والخاطفة، في شذرات وصفها بورخيس بأنها “ليست حِكَما ولا هلوسات صوفية، بل هي أفكار، أصوات تصدر عن رجل مستوحد، جليّ البصيرة، أدرك السر الفريد لكل لحظة من لحظات الحياة”.
طبع بورشيا الكتاب أول مرة، على نفقته الخاصة، بألف نسخة، حين كان في السادسة والخمسين من عمره، فأودعها لدى أصدقائه في مقر جمعية الفنانين لبيعها، لكنهم اشتكوا له بعد مدة من أنها لم تُبع، وتحتل حيزاً كبيراً من المكان بلا معنى، فاضطر إلى إهدائها كلها للمكتبات العامة.
مختارات من هذه الأصوات ترجمها إلى العربية وليد السويركي، عن طبعة ثنائية اللغة إسبانية- فرنسية صدرت في فرنسا 2013، ونشرتها دار أزمنة للنشر في عمّان مؤخرا، فلاقت إقبالا كبيرا حتى باتت الدار تنوي إصدارها في طبعة ثانية.
في تقديمه لهذه المختارات، يوضح السويركي المكانة الاستثنائية التي احتلها كتاب بورشيا في الأدب الأرجنتيني والعالمي بوصفه واحدا من أهم كلاسيكيات الكتابة الشذرية في القرن العشرين، فقد شكّل منذ صدوره في الأرجنتين حالة فريدة من نوعها في تاريخ الأدب المكتوب بالأسبانيّة؛ كتاب جاء من أقصى الهامش، على نحو شبه سري، ليحتل شيئا فشيئا وبمرور السنوات مكانا أساسيا في متن المشهد الشعري في أميركا اللاتينيّة، وليصبح أحد أعظم الكلاسيكيات الشذرية وإنجيلا عصريا لدى الملايين من القراء عبر العالم، إذ حظي عبر عقود باحتفاء الكثير من الكتّاب؛ فوصف الروائي والشاعر الفرنسي رايموند كينو مؤلِّفه بورشيا بأنه واحد من أعظم مئة كاتب عبر التاريخ.
|
يرى السويركي أنّ شذرات بورشيا قد تكون أي شيء: شعرا، فلسفة، تصوفا، تأملات وجودية، إلّا أنها ليست حِكَما. معللا ذلك بأن مؤلفها لم يكن ينطلق في كتابتها، محتوى وأسلوبا، من موقع المجرّب العالم بالأمور، ولا يظهر من خلالها، بصورة العارف المدرِك لمعرفته، بل بصورة الشاعر القلق الذي لا يدرك سر الشعر ولا سر الوجود، الشاعر الذي يشك ويتناقض ولا يكف عن طرح الأسئلة.
وُلد أنطونيو بورشيا في جنوب إيطاليا، وأمضى الأعوام العشرين الأولى من حياته متنقلا بين مدن الجنوب مع أسرته كثيرة العدد وقليلة الموارد، حتى توفي أبوه، فقررت أمه أن تصحب أبناءها إلى المجهول عبر المحيط، علها تحقق حلم الحياة المريحة في الأرجنتين.
لكن لعنة الفقر رافقت الأسرة، حيث استقرت في بلاد التانجو، وظل بورشيا إلى وفاته رجلا بسيطا متقشفا، لا يمتلك من متاع الدنيا إلا حديقة صغيرة، يسكن في بيت خشبي ملحق بها.