أساليب فنية متنوعة تدافع عن الحريات المهددة في العالم

ليس من السهل أن ينتج الفنان المحروم من الحرية أو المهدد بحرمانه منها، أعمالا فنية تخلو من العنف والقوة والرغبة العارمة في التمرد على القيود والضوابط والممنوعات، فتصير لوحات هؤلاء عالمية تعبّر عن الحقوق والحريات وتكسر قيود الزمن لتهرب بالمتلقي نحو الحرية المطلقة.
افتتح في بيروت معرض "تحية لأسرى وأسيرات الحرية"، وذلك من تنظيم “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” في قاعة “الكلمة الرمز فلسطين”، التي تقع في الطابق الثاني من مبنى مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت والتي صارت صالة عرض للأعمال الفنية، بعد ترميم مبنى المؤسسة السابقة.
ويحتضن المعرض الذي يستمر طوال شهر أبريل الحالي أعمالا لـ30 فنانا وفنانة من فلسطين والعالم. ويأتي ضمن إحياء الذكرى السنوية ليوم الأسير الفلسطيني في 17 أبريل من كل سنة. كما يضم 13 ملصقاً تاريخياً من أرشيف المؤسسة وأرشيف “دار النمر للثقافة والفنون”.

رنا عناني: المعرض تضمّن أعمالا فنية لأسرى عبروا فيها عما يعيشونه
وشكل معرض “تحية لأسرى وأسيرات الحرية” في مجمله استمرارا لتدفق حيوي لم ولن يخفت يغذي الأمل، والأهم من ذلك يغذي القناعة المبنية على مفهوم أن الحق لا بد أن يعود إلى أصحابه حتى وإن عاد بطريق قد لا يعرفه تماما أصحاب الحق ذاتهم.
وغالبا ما تقام المعارض الفنية الجماعية المنظمة تحت عنوان واضح قد يكون دعما للبيئة الطبيعية أو المرأة أو حقوق الطفل وما إلى ذلك من عناوين مازالت تتكاثر -لسبب ودون سبب ذي أهمية- في زمن تتآكل فيه الحقوق ويبهت فيه الحس والضمير الإنساني.
وتخسر العديد من تلك المعارض الكثير من أهميتها لأن الأعمال التي تعرض فيها وإن كانت لفنانين معروفين محليا وعالميا جاءت تحت طلب الجهة المنظمة. هذا الأمر لا ينطبق البتة على معرض “تحية لأسرى وأسيرات الحرية” ومن هنا جاءت مصداقيته.
وفي هذا السياق ذكرت القيّمة على المعرض رنا عناني أن في المعرض أعمالا فنية لأسرى عبروا فيها عما يعيشونه، وأنه لم يُطلب منهم إنجاز لوحات معينة تلائم المناسبة للمناسبة.
والناظر إلى الأعمال المعروضة سيدرك هول وتعدد أساليب القمع والقهر الذي يعيشه الفلسطيني داخل وخارج بلاده، إلى الحد الذي لامست فيه هذه الأساليب وشملت كل الحريات المُهددة في العالم فأصبحت رغما عنها ناطقة باسم كل أسير لا يزال في زنزانته وكل سجين مظلوم أفرج عنه، وأيضا كل من هو مشروع أسير في عالم تضيق فيه قيم الحرية لتطال فقط كل من ملك قوة عارمة وإن كانت قوة مجردة من كل حق مشروع. ومعظم الأعمال لم تكن فجة ومباشرة لذلك حملت أكثر من معنى لتصبح مفتوحة على معنى الظلام بشكل مطلق.
وجاء المعرض شديد التنوع وضمّ لوحات أُنجزت بمواد مختلفة، ومنحوتات، وأعمالاً تركيبية، وفيديوهات، وصورا فوتوغرافية، وملصقات. وكما ذكرنا آنفا لم يضم المعرض فنانين من فلسطين فقط بل شمل فنانين من سوريا ولبنان والأردن والعراق والكويت وبريطانيا وهولندا.
وبالنسبة إلى أعمال الأسرى يجدر الذكر أن شحنها إلى بيروت لم يكن سهلا بسبب القيود التي تفرضها السلطات الإسرائيلية. وهو أمر يعرفه وعاشه تماما فنانون محليا وعالميا مثل الفنانيْن سليمان منصور ونبيل عناني.
أما الفنانون المشاركون فهم أسمى غانم (فلسطين)، وأمجد غنام (فلسطين)، وإنغريد روليما (هولندا)، وأيمن بعلبكي (لبنان)، وإبراهيم المزين (فلسطين)، وبشار الحروب (فلسطين)، وبشير مخول (فلسطين/بريطانيا)، وجواد إبراهيم (فلسطين)، وحاتم غرايبة (فلسطين)، وخالد جرار (فلسطين)، ورؤوف كراي (تونس)، ورائد صلاح (فلسطين)، ورائد عصفور (الأردن)، وسوزان غروثيس (هولندا)، وسيروان باران (العراق/لبنان)، وشادي الزقزوق (فلسطين/فرنسا)، وعامر الشوملي (فلسطين)، وعاهد إزحيمان (فلسطين)، وعبدالرحمن قطناني (فلسطين/لبنان)، وماريا منريك (إسبانيا)، ومحمد أسعد سموقان (سوريا)، ومحمد صالح خليل (فلسطين)، ومنال محاميد (فلسطين)، ومنذر جوابرة (فلسطين)، وميثم عبدال (الكويت)، وهانس أوفرفليت (هولندا)، وهاني زعرب (فلسطين/فرنسا)، وهدى فودي (فلسطين/سويسرا)، ويزن أبوسلامة (فلسطين).
كما رافق المعرضَ كاتالوغ مميز بالغ الاحترافية لم يترك من ناحية تفصيلا ضروريا إلا ووضعه حول مفهوم المعرض وحول الفنانين المشاركين ومن ناحية أخرى شكل بابا يحفّز الدخول إلى عوالم الفنانين المشاركين وتجاربهم الفنية خارج ما شاركوا به في معرض “تحية إلى أسرى وأسيرات الحرية”.
وقد يبدو من المجحف التركيز على لوحة أو عمل فني دون آخر، لاسيما أن كل الأعمال الكثيرة التي حضرت في المعرض تتمتع بقيمة فنية واضحة ومُعبرة، ولكن نود الإشارة إلى حسن اختيار منظمي المعرض للوحة الفنان الفلسطيني منذر جوابرة في مقدمة الكاتالوغ التي تحمل عنوان “زمن مكسور” لأنها تحكي عن هشاشة السجن لأنه ظالم وعن حرية هي محتومة. وكيف لا حين ينكسر الزمن ليتيح انسياب زمن آخر هو الأحق بالوجود وهو زمن الحق والحرية؟
أنجز الفنان اللوحة بمواد مختلفة على قماش وقد سبق أن عرضها ضمن معرض فردي له في رام الله. أما أهميتها فلا تكمن فقط في أنها تجسد الأسير بالمعنى المطلق للكلمة بل أيضا في أنها تبرزه خارج ما رسمه له السجّان؛ أي أنه حاضر في عدة أمكنة: في السجن وخارجه، وفي فضاء افتراضي ما، وما بين الاثنين.
ويبدو الأسير محجوب العينين، أي على درجة من الضعف والانكسار ولكنه في الآن ذاته على أرجوحة لا تشير إلى حالته المقلقة و”المتأرجحة” ما بين السجن وإمكانية الخروج منه بقدر ما تشير إلى هشاشة السجن وإلى خلاصه المحتوم، وذلك بسبب سجنه الافتراضي – الأثيري – خيالي الهيئة.
أما ما يؤسس لهذه الرؤية فهو أن السجن القابع فيه رسمه الفنان بأسلوب مميز جدا فبدى أقرب إلى ستارة شفافة أو أقرب إلى ما يسمى بـ”البار كود” أي “الرمز الشريطي” التكنولوجي الذي هو عبارة عن خطوط بيضاء وسوداء لا تُمكن قراءتها إلا عبر أداة افتراضية وهي عصا الليزر التي تستخدم لقراءة تلك الشفرات ثنائية اللون. إذًا هو سجن، ولكنه سجن افتراضي غير واقعي وهش لناحية أن شفراته لن تصيب جسد السجين إلا لـ”قراءة وسماع ” سرده هو، وليس سردية صاحب العصا الأثيرية التي هي ليست إلا أداة وسيطة محدودة القدرات أمام نص السجين الفصيح.
ولكل أسير قصة في المعرض ولكل سجن مُجحف بوابة أثيرية يمكن اختراقها حين “ينكسر الزمن” وتتواطأ فضاءات الداخل والخارج والمابين كما هو حاصل في لوحة الفنان منذر جوابرة.
