أرقام الموازنة تكشف ارتباك بوصلة أولويات القاهرة

اتهام الحكومة المصرية بسبب ضآلة مخصصات التعليم والصحة والإسكان.
السبت 2019/05/18
التصرف في حدود كمية الأموال المتوفرة

كشفت الخلافات داخل الحكومة المصرية بشأن الموازنة الجديدة عن أزمة عميقة تنذر بتعديل وزاري مرتقب بعد تناقض المواقف بشأن المخصصات المالية التي اقترحت وزارة المالية تقديمها لبعض الوزارات، والتي لاقت رفضا لعدم كفايتها في مواجهة الخطط المقبلة.

القاهرة - أظهرت تصريحات وزيري، التربية والتعليم، والصحة والسكان، جانبا من المسكوت عنه من خلافات داخل الحكومة المصرية، والحديث عن غياب أولوياتها عند وضع الموازنة العامة.

ولم يجد العديد من الوزراء في حكومة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي منبرا لإطلاق صرخاتهم سوى لجنة الخطة والموازنة في البرلمان.

وقالت هالة زايد وزيرة الصحة والسكان إن “المرحلة الأولى من مشروع التأمين الصحي الشامل مهددة بالتوقف بسبب نقص المخصصات المالية التي رصدتها وزارة المالية لقطاع الصحة في الموازنة الجديدة”.

وكانت وزارة الصحة قد طالبت بتخصيص موازنة تقدر بنحو 6.3 مليار دولار، لكن وزارة المالية لم توافق إلا على نحو 4.3 مليار دولار.

بسنت فهمي: وزارة المالية ترصد المخصصات للوزارات وفق ما يتاح لديها
بسنت فهمي: وزارة المالية ترصد المخصصات للوزارات وفق ما يتاح لديها

وأوضحت زايد أن المخصصات بالموازنة الجديدة لا تكفي لبناء وتجهيز مستشفى يضم 100 سرير، وإذ لم يتم توفير التمويل فلن تتمكن من تطبيق قانون التأمين الصحي الشامل.

وقدرت دراسة حول تقييم نظام التأمين الصحي وسبل إصلاحه أعدتها داليا أبوالعلا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة حاجة البلاد إلى نحو 6.8 مليار دولار خلال العام المالي المقبل لبدء تدشين منظومة التأمين الصحي في البلاد.

وقال طارق شوقي وزير التعليم العالي إن “عمليات التطوير في المنظومة التعليمية سوف تتوقف لأننا في حاجة إلى 650 مليون دولار، وتستهدف وزارة التربية والتعليم التحول إلى المنصات الرقمية في المنظومة التعليمية وإلغاء طباعة الكتب الدراسية”.

وتتحمل ميزانية التعليم نحو 170 مليون دولار سنويا لطباعة المناهج الدراسية ورقيا، ولا يعترف الطلاب بها، ويتجهون إلى شراء الكتب الخارجية لأنها تلبي رغباتهم.

وشهدت المرحلة الأولى لتحول النظام التعليمي إلى المنصات الرقمية والتي طبقت خلال العام الحالي مشكلات أدت إلى توقف المنظومة الجديدة وهي في المراحل التجريبية بسبب ضعف البنية الرقمية في المدارس الحكومة.

ووفق ما تشير إليه بعض التقديرات، تسبب نظام التعليم الحالي في تكبد المصريين فاتورة تقدر بحوالي 1.4 مليار دولار، تدفع لأصحاب مراكز الدروس الخصوصية.

وتستهدف مصر سد عجز كلي في موازنتها العامة الجديدة بنحو 26 مليار دولار، من خلال إجمالي إنفاق قدره 92.35 مليار دولار، مقابل إيرادات بنحو 66.7 مليار دولار.

وتكشف تلك الوقائع عن إعداد الموازنة العامة للبلاد من طرف واحد فقط، والسعي لتجميل المؤشرات الكلية على حساب القطاعات الأجدر بالإنفاق والتي تمس فئات كبيرة لا تجد غطاء تأمينيا يضمها لمنظومة صحية إنسانية.

وبعد توالي صرخات الوزراء تم منع نشر أسمائهم في الصحف والاكتفاء بكتابة البيانات الرسمية خالية تماما من أسماء الوزراء، وكأنها رسالة بالتوقف عن التصريحات التي تشكك في قدرة الحكومة على تنفيذ مشروعاتها.

وذكر مراقبون لـ”العرب” أن المنع ربما يكون خطوة لتعديل وزاري مرتقب، لكن الوضع حرج جدا، حيث تستضيف مصر بطولة كأس الأمم الأفريقية الشهر المقبل، الأمر الذي زاد الأمور تعقيدا، في ظل عدم الرضاء عن أداء عدد من الوزراء.

ومن المتعارف عليه في إعداد الموازنة العامة للدولة أن تقوم وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري بمخاطبة جميع الهيئات الإدارية والمحليات لإعداد خطة عن احتياجاتها خلال عام مقبل، ثم تقوم برفعها لوزارة المالية التي تتولى توفير التمويل.

ومن الواضح أن ما حدث العام الحالي أمر مدبر مع شح موارد الموازنة، والتي تعتمد بشكل رئيسي على الضرائب، حيث تمثل نحو 75.5 بالمئة من إجمالي إيرادات البلاد.

وتسعى القاهرة إلى تجميل مؤشرات عجز الموازنة أمام صندوق النقد الدولي، حيث أعلنت عن خطة لترشيد الإنفاق من خلال إبطاء معدلات نمو الإنفاق العام السنوي إلى 3.5 بالمئة بحلول نهاية العام المالي 2022-2021، مقارنة بمعدل الإنفاق الحالي البالغ 11.5 بالمئة.

وتخطط الحكومة لزيادة الإيرادات العامة بمعدل نمو يتراوح بين 12 بالمئة و16 بالمئة خلال الثلاث سنوات المقبلة ضمن استراتيجية مالية جديدة لم يتم تحديد ملامحها بعد، وتتصاعد المخاوف من أن تمعن القاهرة في جباية ضريبية جديدة.

كما تم تحديد سقف للاقتراض الأجنبي عند نحو 14.3 مليار دولار للعام المالي المقبل، في محاولة لكبح جماح زيادة تراكم الديون، من أجل خفض عجز الموازنة تدريجيا، وضمان إيرادات لسد مدفوعات فوائد الديون.

وتهدف الحكومة من هذا الاتجاه إلى خفض الدين إلى نسب تتراوح بين 80 بالمئة و85 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك نسبة الفائدة على الديون إلى 32 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.

رشاد عبده: التخبط حول الموازنة يؤكد عدم تناغم أعضاء الحكومة
رشاد عبده: التخبط حول الموازنة يؤكد عدم تناغم أعضاء الحكومة

وقال الخبير الاقتصادي هاني توفيق لـ”العرب” إن “هناك نسبا حددها الدستور المصري لقطاعي الصحة والتعليم عند إعداد الموازنة العامة سنويا ولا تلتزم الحكومة بتلك النسب، رغم أن القطاعين يحتلان النصيب الأكبر من الاهتمام دستوريا”.

ويلزم الدستور الحكومة بتخصيص نحو 3 بالمئة للصحة من حجم الناتج المحلي و4 بالمئة للتعليم. وخصصت وزارة المالية نحو 4.3 مليار دولار للصحة والتي تعادل نحو 1.18 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي البالغ نحو 362.5 مليار دولار.

أما مخصصات التعليم فجاءت في الموازنة بنحو 7.7 مليار دولار والتي تعادل نحو 2.14 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وخالفت الحكومة النص الدستوري من أجل إظهار قدرتها في السيطرة على عجز الموازنة إرضاء للمؤسسات الدولية، بغض النظر عن الوضع المتدهور للمنظومة الصحية بالبلاد.

وأشار توفيق إلى أن موازنة التعليم والصحة، خارج نطاق أولويات الحكومة، فوزارة المالية تدفع في حدود الإمكانيات وليس في نطاق أهمية هذين القطاعين.

وتطمح الحكومة في الموازنة المقبلة إلى تقليص العجز الكلي إلى 7.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بعجز متوقع قدره 8.4 بالمئة خلال العام المالي الحالي.

كما تأمل وفقا لما ورد بمشروع الموازنة الجديدة تحقيق فائض أولي قدره 2 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، وخفض مستويات الدين العام إلى 89 بالمئة من الناتج المحلي، مقارنة بنحو 93 بالمئة متوقعة بنهاية العام المالي الحالي.

ووصفت بسنت فهمي وكيل اللجنة الاقتصادية بمجلس النواب، مستويات التعليم والصحة في مصر بـ”المتدنية”، وهي في حاجة لنظرة من الحكومة، لأن إهمالهما يجر البلاد إلى التخلف.

وأوضحت في تصريحات خاصة لـ”العرب” أن وزارة المالية ترصد المخصصات للوزارات وفق ما يتاح لديها من أموال، وليس بناء على خطط الوزارات.

وتمتلك مصر ثروات كبيرة يمكن استغلالها لتمويل الصحة والتعليم، أهمها الأرضي التي تملكها الدولة ويمكن استغلالها بشكل يزيد من الموارد التي تعزز مخصصات هذه القطاعات.

ولفتت فهمي إلى أن نظام التعليم باستخدام الأجهزة اللوحية (تابليت) يستحيل نجاحه في مصر حاليا، في ظل عدم توصيل الكهرباء لعديد من القرى والنجوع وسوء شبكة الاتصالات، والكارثة الأكبر عدم توصيل الإنترنت إلى عدد من المدارس التي تطبق النظام الجديد.

وتعانى معظم المستشفيات وكذلك المدارس الحكومية من تهالك في بنيتها الأساسية من حيث المباني والمعدات، ولا يصلح معظمها لمواكبة عمليات التطوير.

وأكد الخبير الاقتصادي رشاد عبده أن التخبط الذي تشهده وزارتا التربية والتعليم والصحة، نسخة متكررة مما يحدث في باقي وزارات الحكومة.

وقال لـ”العرب” إن “تلك الوقائع تظهر عدم التناغم والعمل في جزر منعزلة، وقد طفت نتائجه على السطح في القطاعين لأنهما يرتبطان مباشرة بتقديم خدمات للأفراد”.

وأضاف أن “تردي الخدمات في مختلف القطاعات الحكومية شاهد على غياب الرؤية الموحدة للتطوير بما يخفف من عناء المواطنين”.

11