"أرض مشتركة".. وثائقي قبرصي عن صوت الإنسان في مواجهة آلة الحرب

القاهرة – يجسّد الفيلم الوثائقي القبرصي “أرض مشتركة” للمخرجة سيلفيا نيكولايدس، الذي عُرض في القاهرة قبل أيام، دور القوة الناعمة في إحداث تقارب بين الفصائل المتنازعة، حيث يقترح تقليص المسافة وتحقيق التواصل بين اليونانيين والأتراك في جزيرة قبرص المنقسمة، من خلال دمج أطفال الطائفتين في مشروع فني جماعي.
وتطلق المخرجة صيحة احتجاج على ما آلت إليه النزاعات بين الأتراك واليونانيين في جزيرة قبرص المنقسمة إلى شعبين، ويقدّم الفيلم من خلال الفن وصفة سحرية لتحقيق التلاحم المجتمعي فوق الأرض الواحدة.
الأطفال هم الحل
ينسج الفيلم الوثائقي القبرصي “أرض مشتركة” قماشة إبداعية يقدّم من خلالها أفكاره التي يطرحها، فهو عمل فني في المقام الأول وليس خطة طريق سياسية، وجرى عرضه في مركز “الهناجر للفنون” بالقاهرة، في إطار فعاليات سينما دول البحر المتوسط التي تقام في ختام كل شهر بالتعاون بين صندوق التنمية الثقافية والجمعية المصرية لكتّاب ونقاد السينما.
التلاحم بين البشر، بغض النظر عن اختلافاتهم، هو الطرح المحوري للفيلم الذي لا يعنيه إيجاد صيغ وآليات شاملة تكفل تحقيق ذلك في الدول التي بها مشكلات طاحنة أو حروب أهلية، لكن سلاح الفن يمكنه أن يفعل شيئا، هو تقديم نموذج للتفاهم والالتقاء الإنساني بين الفرقاء، في ظل ظروف معينة.
ويشكّل الأطفال كلمة السر التي يفتح بها الفيلم بابا فانتازيّا لإعلاء صوت الإنسان في مواجهة آلة الحرب وتحقيق مُصَالحة بين أطياف الشعب الواحد مهما فرّقتهم النزاعات والمواجهات والاختلافات، فالطفولة هي واجهة البراءة التي لا تعرف أحقادا، وهي منصة إطلاق الأحلام، وتدشين المستقبل الأبيض، الذي يتجاوز صراعات الماضي وعداوات الحاضر.
وترسم المخرجة سيلفيا نيكولايدس، في الفيلم المنتج في العام الماضي، جدارية ناصعة برهافة فائقة، فمن خلال عشرين دقيقة من الدفء الإنساني تحت أشعة الشمس تقترح مشروعا فنيّا جماعيا يشترك فيه أطفال الطائفتين اليونانية والتركية في الجزيرة القبرصية.
هذا المشروع، الذي يسهم فيه أولياء أمور هؤلاء الأطفال أيضا، يقود في النهاية من خلال النشاط المشترك إلى فكرة “الأرض المشتركة”، ويمتزج الأطفال مع بعضهم البعض ويتوحّدون معا ويتبادلون الرسائل والصور والمشاعر الإيجابية، بما يعني ضمنيا وعمليا إمكانية صياغة غدٍ مختلف للشعب القبرصي كله، يسوده التسامح وتغمره المحبة.
وتعاني جزيرة قبرص في البحر الأبيض المتوسط من انقسام إداري وشعبي بعد التدخل العسكري التركي في عام 1974 ونشوب قتال واسع النطاق بين الأتراك والقبارصة اليونانيين نتج عنه تشرد مئات الآلاف، فهناك منطقة ذات أغلبية يونانية في الوسط والجنوب، ومنطقة ذات أغلبية تركية في الشمال، ويتحدث سكان كل منطقة بلغتها، وكذلك فإن الدين يختلف بحسب الطائفة، فالقبارصة اليونانيون يدينون بالمسيحية الأرثوذكسية، والقبارصة الأتراك يدينون بالإسلام.
ليس من السهل محو خلفيات وتداعيات هذه النزاعات بطبيعة الحال، لكن سينما المخرجة نيكولايدس ترسم سيناريو النشاط الطفولي المبتكر ليقدّم نقطة ضوء أو بارقة أمل، فالمشروع الفني الذي ينخرط فيه الأطفال القبارصة من أبناء الطائفتين هو الرسم والكتابة والتلوين على الأسمنت والطين والحجر، حيث يصوّرون مظاهر الحياة اليومية وملامح الطبيعة.
بارقة أمل
عملية الرسم، في أمكنة مفتوحة خلابة، بما تعنيه من انطلاق وعفوية وبهجة ومرح، هي نكهة الفيلم الذي جاء طازجا، منعشا، منفتحا على طاقات البشر الخلاّقة ورغبتهم الجارفة في تحدي المستحيل وتحطيم القيود.
ومثلما أن الأطفال يستعملون المواد الطيّعة والألوان لتجسيد تخيّلاتهم، فإن المخرجة سيلفيا نيكولايدس تستخدم هؤلاء الأطفال أنفسهم كعناصر حية في
قماشتها الإبداعية التي تتجاوز الحدث إلى ما وراء الفعل من دلالات، فالأهم من رسوم الأطفال هو ما تبرزه المخرجة من علاقات تتشكل وانفعالات تتفجر ووجوه تبشّر بالتغيير ونزع أقنعة الكراهية.
وتقترب المخرجة بعدستها من وجوه الأطفال وقسماتهم لتلتقط كل ما يوحي بالنضارة والإشراق والأمل، ومع تشابك أيديهم في حركات وألعاب جماعية تعلن نيكولايدس رسم خريطة الوطن القبرصي الحقيقية من غير الحدود المرسومة والحواجز المتعارف عليها.
وتستلهم كاميرا المخرجة كذلك إمكانات الطبيعة مثل أمواج البحر الهادرة وأوراق الأشجار، وتستثمر الهياكل والأبنية الشامخة مثل القلاع والكنائس والمساجد، من أجل خلق طقوس تلائم روح التمرد على ميراث الدمار والتحرك باتجاه معتقد يقوم على وحدة البشر.
وبمصاحبة الموسيقى الخفيفة والإيقاعات الراقصة، تقدّم سيلفيا نيكولايدس رموزها الخاصة الدالة على بناء مجتمع جديد، ومن هذه الرموز البصرية التي تقدّمها ذلك القلب الكبير الذي كوّنه الأطفال بأجسادهم المتجاورة على الأرض، فمن أفكار الفيلم أنه لا سبيل للمحبة دون خطوة التصالح.
ويمثّل فيلم “أرض مشتركة”، نافذة سينمائية للإطلال على وعي يتشكل حول العالم، ينبني على وحدة المنشأ والمصير، وضرورة الوقف الفوري للحروب والاشتباكات والنزاعات، وارتضاء البشر بالعيش الآمن في الحيّز الذي يجمعهم.