أحفاد بيرم التونسي ينتفضون للدفاع عن قصيدة الخبز اليومي

شعراء العامية ونقادها في مؤتمر بأتيليه القاهرة، ومثقفون يؤكدون أنالمؤسسة الرسمية تخشى التغيير فتنحاز للثقافة الكلاسيكية.
الجمعة 2018/11/02
بيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب جيل المؤسسين الذي سلم رايته للجيل اللاحق

تقف الثقافة الرسمية بمصر، بوزارتها ومؤسساتها وموظفيها البيروقراطيين، عائقًا ضد اتجاهات التجديد في مجالات الإبداع المتنوعة، ومنها الشعر على وجه الخصوص، إذ تنحاز الفعاليات الرسمية وجوائز الدولة ومختلف آليات الدعم إلى القصيدة التقليدية على حساب التيارات الأخرى التي لا تُرضي حماة الذائقة الكلاسيكية.

القاهرة - يستعد شعراء ونقاد للدفاع عن القصيدة العامية المصرية في مؤتمر حاشد بالقاهرة يعقد خلال الفترة من 2 إلى 5 نوفمبر، وهي القصيدة التي لا تزال تتحسس طريقها في المشهد بأيدي أحفاد بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين، واعترف مثقفون بأن المناخ محبط في ظل تجاهل المؤسسة الرسمية التي تخشى التغيير فتنحاز للفصحى والثقافة الكلاسيكية.

من هنا، يأتي مؤتمر شعر العامية المصرية الذي عقد بجهود أهلية على مدار أربعة أيام صرخة في وجه الجمود والتكلس، وانتصارًا للكلمة الجديدة تحت شعار “الشعر للجميع”، وهو ما يؤكده مثقفون ومبدعون التقت بهم “العرب” لمناقشة حاضر قصيدة العامية ومستقبلها.

ويأتي مؤتمر شعر العامية المصرية في أتيليه القاهرة والذي يفتتح، الجمعة، بجهود ذاتية، حاملا آمال قصيدة العامية وآلامها، بوصفها وجها من وجوه الشعر الحيّ والثقافة الجديدة عموما، في واقع ثقافي راكد، تهيمن عليه المؤسسة الرسمية باتجاهاتها المحافظة وإدارتها النمطية التي عزلت النخبة وأبعدت الشعر عن الجمهور.

ينتفض شعراء العامية ونقادها للدفاع عن قصيدة الخبز اليومي في مجموعة من الأمسيات الشعرية والندوات النقدية بالمؤتمر، فضلًا عن إلقاء الضوء على رموز العامية وأصحاب التجارب المهمة من أجيال مختلفة، من أمثال: بيرم التونسي، فؤاد حداد، صلاح جاهين، نجيب سرور، سيد حجاب، أحمد فؤاد نجم، فؤاد قاعود، سمير عبدالباقي، زكي عمر، عبدالناصر علام، طاهر البرنبالي، وغيرهم. هل تنجح قصيدة العامية في كسر الحصار؟ وإلى أي مدى تبدو فلسفة المؤتمر فعالة وملائمة؟ وكيف يرى شعراء العامية ونقادها الأزمة وسبل تجاوزها؟ تساؤلات واجهت بها “العرب” أعضاء اللجنة المنظمة للمؤتمر، وعددا من الشعراء والنقاد، للوقوف على وجهات النظر المختلفة.

إنجازات وعوائق

يلتصق الوجدان الشعبي بالنماذج المتميزة من شعر العامية المصرية، التي تشربتها القلوب بسلاسة، لأنها لا تتطلب الوعي الكتابي، كما يمكنها الاقتران بالأنغام الموسيقية لتكون القصيدة منشدة أو مغناة، كما في “مسحراتي” فؤاد حداد، و“رباعيات” صلاح جاهين، وأغنيات بيرم وسيد حجاب.

الشاعر والناقد يسري العزب يصف شعر العامية المصرية بأنه أكثر فصاحة من شعر الفصحى، ويقول في حديثه لـ“العرب”، إن “شعر العامية يسيطر على ساحة التلقي الفعلية، هذه حقيقة يتجاهلها البعض، أما شعر الفصحى فقد انصرف إلى دائرة أخرى بعيدة، وانشغل الكثيرون من مبدعيه بالتنظير، فتكلست مواهبهم، وكادوا يتوقفون عن التعبير”.

المؤتمر يضم أمسيات شعرية وندوات نقدية، فضلًا عن إلقاء الضوء على رموز العامية والتجارب المهمة من أجيال مختلفة

ويشير العزب إلى أن أهمية مؤتمر العامية مضاعفة، فمن جهة هو يثبت كفاءة التجارب الجديدة في كتابة شعر العامية ونقده، وأنها قادرة على فك أي حصار أو محاولة للتقزيم، ومن جانب آخر هو يلقي الضوء بكثافة على إنجازات شعراء العامية السابقين، الذين انطلقوا بالقصيدة قدما إلى الأمام بين الجماهير، فاتسعت أمامهم ساحة التلقي، وصعدت نصوصهم إلى أعلى، حاملة آمال الوطن وآلامه.

ويرى الشاعر يسري حسان أن العمل الثقافي الجماعي يمكنه أن يلعب دورًا إيجابيًّا لدعم قصيدة العامية، موضحًا أن أهم ما يميز مؤتمر شعر العامية هو تحقيقه لفكرة التواصل بين الأجيال والاتجاهات كافة، دون الانحياز إلى جيل أو تيار بعينه، وهو ما يبدو في برنامجه.

يضم مؤتمر العامية ثلاث فعاليات، الأولى تحمل اسم شاعر رائد أو مؤثر وصاحب تجربة مهمة من الراحلين، وتنعقد حوله دراستان أو ثلاث، والفعالية الثانية بعنوان “تجربتان.. شاعر وشاعرة” وتتضمن قراءات لشاعر وشاعرة ممن حققوا مكانة وإنجازًا طيبًا في شعر العامية، أما الفعالية الثالثة فهي أمسية شعرية جماعية تحمل اسم شاعر راحل أو شاعرة راحلة.

ويعترف يسري حسان باستشعار الغبن وعدم نيل شعراء العامية ما يستحقونه من حقوق في ظل ثقافة مركزية تخشى التغيير، ويقول لـ“العرب”، “بالرغم مما حققه شعر العامية المصرية من إنجازات مهمة على أيدي كبار مبدعيه عبر الأجيال، فإنه حتى الآن يعاني من التجاهل الرسمي له، سواء من خلال أغلب المجلات الثقافية التي لا تنشر قصائد لمبدعيه أو حتى دراسات عن أعمالهم، أو من خلال الأكاديميات التي ترفض تسجيل رسائل للماجستير أو الدكتوراه عن شاعر عامية”.

ويُذكر أن وزارة الثقافة في تشكيلها للجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وضعت شاعرًا واحدًا يمثل شعراء العامية في لجنة عدد أعضائها ثلاثون عضوًا، وهذا يوضح الانحياز المؤسسي التام لشعر الفصحى على حساب شعر العامية.

وبرأي الشاعرة رشا الفوال، فإن إقامة فعالية خاصة حاشدة لشعر العامية على هذا النحو هي محاولة جادة حقيقية لتعزيز قصيدة العامية ومنح شعرائها المكانة التي يستحقونها، ومثل هذا الدعم المعنوي خصوصًا للشعراء الشباب مهم جدًّا لتغذية تجاربهم ومساندتهم في رحلة الكتابة والتحديات.

مشوار طويل

السباحة ضد التيار ليست سهلة بطبيعة الحال، لكن رحلة الأحلام الوعرة تبدأ بسلسلة من الخطوات الجادة، منها إقامة مثل هذه المؤتمرات، التي تأخذ على عاتقها مسؤولية تحريك الماء الراكد بالفعل الإبداعي والنقاش المثمر.

يتفق الشاعر سعيد شحاتة، والكاتب والباحث أمل سالم، عضوا لجنة إدارة مؤتمر شعر العامية المصرية، على أن هذا الشعر الحي النابض هو جدير بأن يكون للجميع بلا تفرقة، وأن يجري على الألسنة ويتدفق في الشرايين بدون قيود، وهذا دور جماعات المثقفين والكيانات الأهلية في مشوار طويل غير هين.

شعر العامية الحي النابض هو جدير بأن يكون للجميع بلا تفرقة، وأن يجري على الألسنة ويتدفق في الشرايين بدون قيود

ويصف سعيد شحاتة شعر العامية المصرية بأنه “سيظل دائمًا بخير لأنه صناعة محلية، فلا يمكن لأي انفتاح أن يؤثر عليها، فالشعر الذي عُجن بتراب وتاريخ هذا البلد والذي يترجم عواطف ومشاعر وأوجاع البسطاء والكادحين، لا يمكن أن يتخلى عنه أهل هذا البلد”.

ويؤكد شحاتة لـ“العرب”، ثقته بقصيدة العامية في إثبات جدارتها ومواجهة أي تحديات، مشيرا إلى أن مدونة العامية مبشرة منذ الأجداد مرورا بالآباء إلى الأحفاد، فكل جيل يسلم رايته لجيل، ولن تقدر أي قوة على إزاحة الأصوات الجادة في حركة العامية، فكل ظاهرة مناوئة تأخذ فترتها وتذهب من حيث جاءت، ويبقى الجاد مهما كثرت الظواهر.

يأتي احتفاء المؤتمر بقصيدة العامية ليعكس من وجهة نظر الكاتب أمل سالم الاحتفال بكل ما هو جميل بمصر، وكل ما يشكل خصوصية للثقافة المصرية، فالعامية المصرية هي رافد ثقافي تظهر فيه بوضوح طبيعة مصر بمكوناتها الجغرافية والتاريخية والمجتمعية، والإرث الحضاري العتيق مرورا بمراحله المختلفة: الفرعونية، والرومانية، والقبطية، والإسلامية.

يراهن سالم على تفعيل الدور الثقافي للمؤسسات غير الحكومية، قائلا لـ“العرب”، “الفرصة لا تزال قائمة للعمل الثقافي الجمعي، وللحفاظ على الكتلة الحرجة المجتمعية وإعادة تشكيلها بما يصب في مصلحة المجتمع، وإكسابه المزيد من التثقيف والوعي”.

14