آلان فاسويان يستعيد "غراديفيا" من شتات الذاكرة الطفولية

بيروت – يعبر التشكيلي اللبناني آلان فاسويان في معرضه الجديد بقاعة “جانين ربيز” البيروتية والمعنون بـ”إعادة بناء فينوس” عن حالة حب، على ما يبدو، تعمّق أثره في النفس، لأن الفنان فقد “الإثبات العيني”، إن صح التعبير، لذاك الحب، وباتت شظايا الذكريات البصرية، واللمسيّة، والشميّة، وبالتالي الإحالات الشعورية واللاشعورية هي الطاقة/الذخيرة التي حركت قلب وذهن ويد فاسويان ليشيّد منزلا/معرضا يسكن فيه إليها، إلى “فينوسه” التي غابت بشكل قصريّ ومُفاجئ، أو إلى “غراديفيا” خاصته، أي تلك التي تتقدم بطلة القصة القصيرة والمؤثرة للكاتب الألماني ويلهيلم جنسن.
معرض “إعادة بناء فينوس” هو من المعارض التي يتوجب على الزائر أن يكون مُلماً ولو قليلا بالخلفية التاريخية/الشخصية لما أراد آلان فاسويان أن يسرده، والذي غالبا ما امتزج فيه الواقعي مع الغرائبي، والطريف مع المخيف، والألوان الفرحة مع سوداوية النظرة إلى مسار الأمور الأرضية، ولهذا المعرض بشكل خاص مناسبة خاصة تكلم عنها الفنان وساهمت بشكل كبير في لمّ شمل ما قدمه من منحوتات مُتباعدة في الصالة ومُشبعة بالألوان وملوّحة بالشموس الغاربة.
يقول فاسويان إنه عندما كان في السابعة من عمره، وعن طريق الصدفة، عثر على تمثال صغير للآلهة فينوس مكسّرا ومشوّها، وبلا يدين، وقد تأثر كثيرا به وأصبحت “الفتاة” التي جسدها هذا التمثال محميّته الخاصة التي عليه أن يرعاها جيدا.
حمل التمثال إلى منزله، حيث بقي هناك حتى احتدمت الحرب اللبنانية، واضطر في يوم من تلك الأيام أن يترك منزله الذي احتله مهجّرون، وحين عودته بعد سنين عديدة حاول العثور على “فينوسه”، ولكن دون جدوى، ما سبب له حزنا عميقا.
ويضيف الفنان أنه اضطر إلى الانتظار أكثر من أربعين عاما، ليتأكد من قدرته الحرفية والفنية على تشكيل تماثيل صغيرة شبيهة قدر الإمكان بفينوسه الضائعة، لكن بالطبع جاءت تلك الفينوسات ناضجة بأسلوبه وملوّنة بخياله وعاطفته وأمنياته وأيضا بكوابيسه، كوابيس تجسدت في تفكك أطراف فينوساته الـ14، والتي عمد إلى جمعها ووصلها بألوان مُتناقضة.
في المعرض/المنزل وضع الفنان المُجسمات مشغولة بالخشب، وبودرة المعدن ورمل البحر والريزين بأسلوبه الطفولي والمُخادع الذي يهدف عادة إلى تظهير نتائج الضغط أو التشويه الجسدي أو النفسي الذي تعرضت له تلك الدمى “البشرية”، ربما منذ بداية الحرب اللبنانية حتى الآن، يُذكر أن الفنان من جيل تلك الحرب، وهو المولود سنة 1967.
وتشير الدمى بأشكالها الملساء والفكاهية في أحيان كثيرة إلى تقهقر العالم الذي نعيش فيه وتحوله مرتعا للغربة، حيث الكل يتكيف مع ألمه، أو لا يتكيف فينهار كليا، إذ تقف الدمى في بقع متباعدة في الصالة، ويحيط بها فراغ أبيض وبارد ليس مردّه فقط “طبيعة” صالة “جانين ربيز” التي تشبه مسكنا لأوكسجين صاف ومستورد من القطب الجنوبي، بل مردّه أيضا هيئة الدمى التي ليست بدمى تنقصها التفاصيل بقدر ما هي تكثيف لخيال آلان فاسويان الطفولي/الفني الذي أعاد ترميم ذاكرته عن “حبه الأول” من خلال إضافات سردية لاحتمالات تصرفات تلك الدمى وانهماكها بأعمال يريد الفنان إقناعنا بأنها بسيطة مثل حمل صخرة على كتفها، ولهو جديّ ورصين كالركض، ورقص “الهيب هوب”، وممارسة الحركات البهلوانية وإطلاق الرصاص في الهواء، ابتهاجا أو جنونا، لا أحد يعلم تماما.
المشاهد لن يعرف ماذا يجري هناك في المعرض، إلاّ أنه فوران ومن ثم اجتياح لصور داخلية اكتظت في نفس الفنان فطافت على السطح، على أرض الصالة.
فينوس فاسويان كاهلها مثقل ليس من مرور الزمن، بل من كم وعنف التشويه الذي تعرضت له هيئتها في المخيلة البشرية
لحظة الدخول، تستقبلك فينوس “الأصلية” في وسط الصالة، ولكن بنسختها المبتورة وبجسدها المتعب كما عثر عليها الصبي آلان فاسويان عندما كان في السابعة من عمره، تقف منحوتة فينوس وكاهلها يبدو مثقلا ليس من مرور الزمن، بل من كم وعنف التشويه الذي تعرضت له هيئتها في المخيلة البشرية الجماعية، وذلك جراء ما وصل إليه العالم المعاصر، وربما أيضا ما وصلت إليه صورة المرأة لا سيما في مجلات الترفيه والموضة والمجتمع.
هذه هي “فينوس” الفنان المُستحضرة، هي محور المعرض وتجسيد فاقع النبرة لإفلاتها من حضنه الطفولي، وبالتالي من تجسدها واقعيا بغير ما بدت عليه في هيئاتها “المنحوتية” الأربع عشرة والمحيطة بها في الصالة والتي أطلق الفنان عليها جميعا اسم “الفينوسات العائدة من الموت”.
منحوتات مشغولة بمادة الريزين، تعود إليها الحياة، ولكن أقل حجما وهيبة بكثير من تلك الأصلية المُتعرضة لشتى أنواع التشويه والحاملة للافتة “هذه ليست فينوس” تتبرأ فيها مما يحيط بها من فينوسات هجينات لم يحتفظن إلاّ بالشيء القليل من ذاتهنّ.
ليست “فينوس” الفنان اللبناني إلاّ نسخة مختلفة عن بطلة الرواية الألمانية القصيرة، فآلان فاسويان يشبه بطل الرواية، العالم الأركيولوجي الشاب، الذي أطلق على منحوتة لامرأة عثر عليها في خرائب مدينة بومباي، اسم “غراديفيا” نسبة إلى إله الحرب الروماني المُجسد وهو يمشي قُدُما.
صارت “غراديفيا” تلاحق العالم الشاب في أحلامه ويلاحقها وينتظرها هو في أحلامه ويشتد غرامه بها وبوضعية سيرها إلى الأمام، اختلطت “تلك التي تتقدم” بكيانه كله لتهدم الحاجز ما بين اليقظة والحلم، حلم لم يعرف كيف، وأين أو متى يتحقق.