"آلاف الشموس في الظلمة" معرض يواجه الفوتوغرافيا بنفي وساطتها

عالمان متعاكسان يصوران الواقع بألوان وحركات متضادة.
الجمعة 2022/09/09
صورة عن ثنائية الضوء والعتمة

انطلاقا من الفكرة القائلة إن فن التصوير الفوتوغرافي عالم شديد الاتساع ويصل اتساعه حدود إلغاء ذاته كوسيط ليصبح هو موضوع ذاته، أي موضوع الصورة، تقدم الفنانتان اللبنانيتان غابريالا شويفاتي وميا بركة معرضا مشتركا تتحد فيه أفكارهما ورؤيتهما الفنية لتخرجا الكاميرا من وظيفتها التقليدية وتقدما نظرة جديدة للواقع.

تقدم صالة “أرت لاب” اللبنانية معرضا فنيا تحت عنوان “آلاف الشموس في الظلمة” للفنانتين اللبنانيتين غابريالا شويفاتي وميا بركة. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المعرض جاء ثمرة جهد مشترك ما بين الصالة الفنية “أرت لاب” و”المركز الثقافي البريطاني” في بيروت، وهو مركز أنشأ مشروعا ثقافيا أخذ على عاتقه رعاية وتشجيع المواهب الفنية الجديدة.

وقد نشر القيمون على هذا المشروع إعلانا على صفحات التواصل الاجتماعي دعوا من خلاله الفنانين أصحاب التوجهات الفنية الجديدة والخبرة النضرة في مجال الفن إلى التواصل معهم. وكان من الفنانين المتجاوبين مع هذه الدعوة ميا بركة وغابريالا شويفاتي.

لاحقا تم التعارف بين الفنانتين وصولا إلى تنظيم معرضهما المشترك المبني على التلاقي في الفكر ومنطق التعبير الفني، والذي حمل عنوانا لافتا “آلاف الشموس في الظلمة”. وسيستمر هذا المعرض حتى الخامس عشر من شهر سبتمبر الحالي.

استنطاق العتمة

المعرض قدم "مطبوعات" أخذتنا إلى تلك العوالم الداخلية الخاطفة للأنفاس التي حققتها آلة التصوير وهي في يد فنان بارع

 بني المعرض بمفهومه العام على بحث بصري معمق حول مفهوم وتجليات العتمة والضوء حين لقائهما مع أشياء مختلفة. وكما تقول الفنانتان “في تجربتنا هذه الهدف من العثور في الأشياء، من الأشياء على عناصر أخرى. في التراب العثور على الماء، وفي الضوء العثور على الشعلة، على الوميض كصورة متحولة. لا التراب يبقى ترابا، ولا الشعلة، شعلة.. كل هذا يحدث حين تعكس الظلمة، الضوء”.

وكما أبدع فنانون تشكيلون لبنانيون في محاورة العتمة التي تعم لبنان وبيروت بشكل خاص، واستخرجوا منها أصولها وتجلياتها وإيحاءاتها وأثارها، كل بأساليبه الفنية والتعبيرية المختلفة، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر الفنان التشكيلي اللبناني حسين حسين، قدمت ميا وغابريالا نصا فنيا مغايرا ومختلفا إلى أقصى حد، ولكنه نصّ يغوص في ماهية العتمة، والأهم من ذلك محاولة استنطاقها.

وبرز في الأعمال استنطاق العتمة ومشاركة الناظر إلى الأعمال في محاولة فهم لغتها الوجدانية والوجودية، عندما تسرد فصولا عن معنى العيش في لبنان من خلال ما تصنعه و”تضيء” به، أي العتمة.

ويذكر البيان الصحافي المرافق للمعرض أن “جملة أعمال فنية تم إنتاجها كليا في العتمة من خلال غياب شامل لآلية التصوير الفوتوغرافي واستبدالها بتقنية الطبع عوضا عنها”.

وفي حين يحتاج الضوء إلى وسيط (آلة التصوير) لـ”يتكلم” ويظهر الأشكال، هو اليوم في هذا المعرض لا يحتاج إلا إلى العتمة كي يظهر مكونا لأشكال وأمواج بصرية غرائبية هي الصور المطبوعة على ورق خاص شديد الحساسية للضوء، وذلك دون حاجة إلى الآلة الفوتوغرافية.

أما هذه الصور، بل لنقل لأجل الدقة، “المشاهد المطبوعة” التي ظهرت في المعرض فهي لعالمين اثنين يتلاقيان، ويشبهان مرايا متعاكسة. الواحدة منها تعتمد لغة الأسود والأبيض والأخرى لغة الألوان الحارة والباردة على السواء.

وجاءت أعمال ميا بركة بالغة الشعرية وفيها حدة لا تحتاج إلى إفصاح شديد لتكون جارحة. وتنحصر الألوان الظاهرة في أعمالها في اللون الأسود والأبيض. ومن تلك المشاهد ما يمثل مشهد طلوع القمر التمام على بحر أسود لا يعرّف به إلا خط أبيض رفيع ومتهالك في انسيابه. أما أعمال غابريالا شويفاتي فهي عبارة عن انفجارات لونية شديدة التباين وتذكر بولادة الكواكب وموتها والانفجارات البركانية التي تحتدم تحت قشرة الأرض أكثر من خروجها على السطح، وانهيارات عوالم في الفضاء الخارجي، وتوتر المحيطات التي لا تثرثر بزبد أمواجها، بل بالشحنات المغناطيسية التي تظهر كتيارات قابضة حينا ودافعة حينا آخر.

مواجهة الآلة

لوحات تولد من رحم العتمة
لوحات تولد من رحم العتمة

أما “إستراتيجية” تنفيذ هذه الأعمال، إن صح التعبير، فهي، وحسب البيان الصحافي المرافق للمعرض، “نتيجة انسجام وتلاق ما بين أحجام مادية ملموسة والضوء المسلط على أوراق هي بالغة الحساسية والتفاعل مع الضوء”.

أنتج تلاقي هذه العناصر الثلاثة صورا من عمق الظلمة لتبدو وكأنها جزئيات من مشاهد وأشياء أرادت أن تظهر إلى العلن بأشكال مختلفة لا تشبه أصلها.

على الرغم من أن المعرض ينطلق من منطق نفي وساطة الكاميرا غير أنها لم تخرج عن عالمها البتة. صحيح أن المعرض أراد إزاحة دور آلة التصوير وتنوع قدرات عدساتها لم تخرج أعمال الفنانتين من عالم التصوير الفوتوغرافي الفني /التجريدي والمفهومي، بل أوغلت في التجريدية أكثر من إيغال الصور الفوتوغرافية الفنية/التجريدية.

نتذكر هنا، على سبيل المثال، العديد من الصور الفوتوغرافية التي أبدعها الفيلسوف الفرنسي جان بودريار. ويبقى الاختلاف، ربما، في أن التصوير الفوتوغرافي عالم شديد الاتساع ويصل اتساعه حدود إلغاء ذاته كوسيط ليصبح هو موضوع ذاته، أي موضوع الصورة. أما ما قامت به ميا بركة وغابريالا شويفاتي فهو مواجهة الآلة الوسيطة، أي الكاميرا، بإلغاء دورها في صناعة الواقع واستبدال فعل الصناعة تلك بمشاهد قادتها ظلمة رضخ لنفوذها الضوء.

وعلى النحو الذي تتعامل فيه الآلة الفوتوغرافية بيد فنان مشحون بكثرة الأفكار، استخدمت الفنانتان حركة الضوء وتموجاته وإيقاعه كي تحورا من الواقع وتجعلانا نرى ما ليس مخترعا وخياليا، ولكن ما هو واقعي، ولكن ظاهر بوجوهه المختلفة غير المعهودة. إنه الضوء وقد أخذ مكان آلة التصوير لينتج الصور/المطبوعات.

وقد ذكرت غابريالا شويفاتي أنها أرادت أن تختبر أسلوبا غير تقليدي في التعامل مع تقنية الطباعة وتجربة ما أُطلق عليه تقنية الـ”فوتوغارمينغ” التي تعتمد على مركزة أشياء على مسطح شديد الحساسية للضوء، ومن ثم تسليط الضوء المباشر عليها دون استخدام الكاميرا. أما ميا بركة فقد وصفت ما شعرت به عند استخدام هذا الأسلوب التعبيري، قائلة “تسليط الضوء على هذه الأوراق الحساسة جدا لأدق أمواجه يشبه العمل على الجلد المحروق”.

قدم المعرض “مطبوعات” أخذتنا إلى تلك العوالم الداخلية، النفسية، الحسية، الفضائية والخاطفة للأنفاس التي حققتها آلة التصوير وهي في يد فنان بارع تقنيا وصاحب أفكار ومفاهيم فلسفية.

Thumbnail
Thumbnail
Thumbnail
Thumbnail
14