طارق عامر رجل الظل الذي أنقذ الجنيه المصري من الانهيار ثم دمره

السبت 2016/07/30
تحوم حوله شبهات فساد

القاهرة - “قررتُ ترك العمل العام بعد ثماني سنوات حافلة، قمت فيها مع الدكتور فاروق العقدة بإصلاح الجهاز المصرفي وإجراء إصلاحات كبيرة في الاقتصاد المصري، وجنّبت هذا البلد كوارث ما كان لأبناء هذا الشعب أن يتحملوها، لكنني اليوم عزفت عن العمل العام في هذا الجو المشحون الذي لا يصلح لي”.

الكلمات السابقة كتبها طارق عامر محافظ البنك المركزي الحالي، ضمن رسالة استقالته من رئاسة البنك الأهلي المصري أكبر البنوك الحكومية في مصر بعد يومين فقط من تنحّي الرئيس الأسبق حسني مبارك عن حكم البلاد في فبراير 2011.

الرجل الثاني

صباح يوم الاستقالة فشل في دخول مكتبه بسبب مظاهرات العشرات من الموظفين بالبنك ضده، بذريعة فساده وظلمه للعاملين لحساب مجموعة من الشباب المحسوبين على شلة جمال مبارك نجل الرئيس الأسبق حسني مبارك عديمي الخبرة الذين وصلوا إلى أعلى المناصب داخل البنك بالمظلة “الباراشوت”.

تحليل مضمون خطاب الاستقالة يكشف مدى اعتزاز المصرفي المرموق بنفسه لدرجة العجرفة. بإشارته المبهمة لدوره في تجنيب الشعب المصري كوارث ما كان ليتحملها من منصبه الذي لم يكن يسمح له بهذا، أو في أحسن الأحوال لم يكن ليقوم بذلك منفردا.

لكن الكلمات تشير أيضا إلى دور غير معروف للرجل في ضبط إيقاع الاقتصاد المصري، وتحديدا السيطرة على انفلات سعر صرف الدولار في تسعينات القرن الماضي، بعد قرار حكومة عاطف عبيد وقتها بتحريره.

وقتها قام طارق عامر بصفته مديرا للبنك الأهلي بدور فاعل مع فاروق العقدة الذي كان مستشارا لمحافظ البنك المركزي وقتها في السيطرة على سوق الصرف من الانفلات الذي كان قد بدأ يهدد وضع الاقتصاد المصري ككل.

ما كتب خلال تلك الفترة في نهاية تسعينات القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة يظهر كيف استطاع عامر بالتعاون مع العقدة إيقاف الزيادة الجنونية في سعر الدولار خلال فترة لا تتعدى 3 أشهر، بل إنه نجح في إعادة سعره في السوق السوداء إلى نفس السعر الرسمي 5.6 جنيهات بعدما كان قد تجاوز حاجز الثمانية جنيهات.

هذا النجاح الفريد كان واسطة المصرفي لاعتلاء أكبر منصب في عالم البنوك في أيّ دولة وهو محافظ البنك المركزي، لكنه هذه المرة لم يخفق فقط في ضبط انفلات الدولار، وإنما عادت دعاوى الفساد تطارده من جديد لدرجة اتهامه وسط قطاعات عديدة بأنه يفتعل أزمة الدولار لتربيح أشخاص معيّنين على حساب الشعب.

عرف عن طارق عامر أنه “رجل الظل”، فهو يجيد دور “الرجل الثاني” ولا يفضّل البقاء في المقاعد الأمامية التي تضطره غالبا للدخول في عداوات تكلّفه الكثير خاصة مع طبيعته التي تميل إلى الحدة.

الفترة ما بين نهاية تسعينات القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة تظهر كيف استطاع عامر بالتعاون مع العقدة إيقاف الزيادة الجنونية في سعر الدولار خلال فترة لا تتعدى 3 أشهر، بل إنه نجح في إعادة سعره في السوق السوداء إلى نفس السعر الرسمي 5.6 جنيهات بعدما كان قد تجاوز حاجز الثمانية جنيهات

مع اختياره محافظا للبنك المركزي في نهاية نوفمبر من العام الماضي توقع مصرفيون عملوا أو تعاونوا معه من قبل أن يتمكن من ضبط سوق صرف الدولار بالنظر لسابق خبرته في هذا المجال.

كانت القناعة التي سيطرت على سوق الصرف وقتها أن الرجل يعرف الأوكار السرية التي تحيك المضاربات المصطنعة للتلاعب في سعر الدولار، من خلال خبرته الطويلة بالسوق الموازية أو التي يصطلح على تسميتها بالسوداء.

تكليفات لم تنفذ

في تسعينات القرن الماضي ابتكر عامر والعقدة حيلة فريدة لضبط سعر الصرف عبر دخول البنك الأهلي إلى السوق الرسمية والموازية في آن كمشتر للدولار وقام بعمليات مضاربة متعددة، حتى أصبح البنك مسؤولا أمام الحكومة عن جمع الدولار من السوق المحلي.

كما استطاع التعاون بين العقدة وعامر إنقاذ السوق المصرفي وقتها من تداعيات أزمات عدة منها “نواب القروض”، شيكات البنوك بدون رصيد ولا ضمانات وتدنّي مستويات الاقتصاد بعد تراجع السياحة نتيجة الأحداث الإرهابية في الأقصر.

لكن المصرفي البارع أخفق هذه المرة في ضبط انفلات الدولار، بل على العكس ساهم بتصريحاته وتصرفاته غير المبررة في وصوله إلى مستويات خيالية دفعت معها كثيرا من الاقتصاديين للتخوف من أن تواجه مصر مصير دول أميركا اللاتينية في العقد الماضي حين انهار اقتصادها وأعلنت الإفلاس.

تفسير هذا التناقض بين النجاح المبهر في السابق والإخفاق المريب الآن يربطه البعض بغياب فاروق العقدة الذي كان العقل المفكر في علاقة الشراكة، أو “كان العقدة هو المخ وعامر هو العضلات” بحسب تعبير الفنان عادل إمام في مسرحية مدرسة المشاغبين لزميله سعيد صالح.

الرئيس السيسي أعطى عامر ثمانية تكليفات، ويوضح تقييم محايد لفترة عمله، فشله في تحقيق أي منها رغم عموميتها. لأنه لا يمكن أن تكون الثمار المرجوة هي الارتفاع الجنوني في سعر الدولار.

لكن أصحاب نظرية المؤامرة يرون أن عامر تعمد تدمير سعر الجنيه لصالح الدولار باتفاق مع الدولة نفسها استجابة لضغوط مؤسسات التمويل الدولية التي تسرّبت شائعات في وقت سابق من أنها طالبت الحكومة المصرية بالتخلي عن دعم الجنيه المصري.

ومن المفارقات أنه من بين ما قيل في ذلك الوقت إن السعر الحقيقي للدولار في السوق المصرية كما حددته تلك المؤسسات هو 13 جنيها، وهو نفس السعر الذي وصل إليه في الأيام الماضية.

من المسلّم به أن لا أحد يستطيع الجزم بالأسباب الحقيقية لإخفاق عامر. لذلك لا يبقى أمام الإعلاميين سوى التكهنات والتحليلات في دولة تبقى فيها المعلومات المحجوبة أكبر بكثير من تلك المتاحة للإعلام مع مراعاة أنه لا يمكن الاعتماد على البيانات الرسمية مثلما لا يمكن الركون للاتهامات المتطايرة من خصوم الرجل.

في هذا المناخ يمكن الارتكان لمعيار وحيد لقياس نجاح طارق عامر أو إخفاقه وهو قدرته على أداء التكليفات التي طالبه بها الرئيس عبدالفتاح السيسي وقت صدور قرار تعيينه محافظا للبنك المركزي.

علاقة ملتبسة

في ذلك الوقت أعطاه الرئيس ثمانية تكليفات، ويوضح تقييم محايد لفترة عمله فشله في تحقيق أيّ منها رغم عموميتها. فقد تم تكليفه باتّباع سياسات مالية ونقدية رصينة تؤتي ثمارها المرجوة وهو ما لم يحدث، لأنه لا يمكن أن تكون الثمار المرجوة هي الارتفاع الجنوني في سعر الدولار.

كذلك كلّف بعدم المساس بمحدودي الدخل والعمل على توفير جميع سبل الدعم لهم، وتوصيل نتائج إدارة السياسة الإيجابية النقدية للمواطن، والعمل على ضبط الأسعار، وكلها تكليفات لم ينجح عامر في القيام بها.

أخفق عامر في آخر التكليفات الثمانية، وهو تفعيل وسائل الرقابة على سوق المضاربة في العملات، بل إن كثيرين رأوا أنه عمل عكس ما تم تكليفه به بإلغائه الحد الأقصى للإيداع والسحب البنكي الذي وضعه سلفه هشام رامز.

الفترة ما بين نهاية تسعينات القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة تظهر كيف استطاع عامر بالتعاون مع العقدة إيقاف الزيادة الجنونية في سعر الدولار خلال فترة لا تتعدى 3 أشهر، بل إنه نجح في إعادة سعره في السوق السوداء إلى نفس السعر الرسمي 5.6 جنيهات بعدما كان قد تجاوز حاجز الثمانية جنيهات

التكليف الوحيد الذي بدا أن المحافظ نجح في أدائه هو توفير جميع السلع الأساسية للمواطنين من الأغذية والأدوية والوقود، حيث لا توجد أزمات ملموسة في الأسواق، وإن كان البعض يتوقع اقتراب حدوثها مع تفاقم مشكلة سعر الدولار.

بين أبرز التناقضات في شخصية طارق عامر هي علاقته الملتبسة مع الدولة ورجالها عبر العصور المختلفة. فعمّه هو المشير عبدالحكيم عامر الرجل القوي في نظام عبدالناصر حتى نكسة 1967 التي أدت لإقالته ثم موته انتحارا كما قيل رسميا، أو بتسميمه كما تصرّ عائلته.

لكن عامر لا يحتفظ من عهد عبدالناصر سوى بالذكريات السيئة. ومنها ما كتبه في مقال مطول عام 2012 في جريدة مصرية بعنوان “هذا هو عمي عبدالحكيم عامر ابن مصر البار” وصف فيه نظام عبدالناصر بأنه لا يختلف كثيراً عن النظام النازي وما فعله بمن عارضه من شعبه.

كان من بين أبرز الاتهامات التي طاردت المصرفي خلال ثورة يناير 2011 وبعدها علاقته الوثيقة بجمال مبارك نجل الرئيس الأسبق ووريث عرشه المنتظر، حتى إن أحد أسباب ثورة موظفي البنك عليه عقب الثورة ما قيل عن تعيينه لعدد من شباب جمعية جيل المستقبل التي أنشأها جمال مبارك في مناصب قيادية بالبنك دون وجه حق.

وقيل إن من بين أسباب تعيينه رئيسا لمجلس إدارة البنك الأهلي وقتها صداقته بجمال مبارك التي نشأت حينما كان يتزاملان في “بنك أوف

أميركا” في لندن الذي عمل فيه نجل مبارك لفترة.

وبعد عودة جمال لمصر وتولّيه لجنة السياسات بالحزب الوطني اختار طارق عامر عضوا بها ليبقيه على مسافة قريبة منه.

لكنه عندما تحدث عن ذلك العصر كال له الاتهامات بالفساد، ومنها ما ورد في نفس المقال المشار إليه، حيث كتب متحدثا عن نجل الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل الذي قام أنجاله بتكوين ثروات فاحشة في البلد الفقير ويتكلمون عن الناصرية والاشتراكية وهم الذين ضربوا الأمثال في الرأسمالية المتوحّشة بحسب عامر.

وفي منطقة أخرى كتب عامر عن محاولة جمال مبارك للتوسط لمنح قرض لأحمد نجل هيكل من البنك الأهلي، واصفا ما حدث بأن قادة الاشتراكية والناصرية يتحالفون مع نظام مبارك الفاسد في المتاجرة بأحلام الشعب الغلبان الذي لم يعد يعرف من يصدّق.

ثالث العلاقات الملتبسة مع فاروق العقدة نفسه الذي عيّن رئيسا لمجلس إدارة البنك الأهلي فرع لندن قبل ثورة يناير في وقت كان لا يزال يشغل فيه منصب محافظ البنك المركزي بمكافأة شهرية خيالية بلغت نصف مليون دولار وقتها.

في ذلك الوقت تحركت اللجنة الاقتصادية في البرلمان للتحقيق في الأمر لكن كثرة سفر العقدة خارج البلاد عطّل جلسة الاستماع حتى قامت ثورة يناير، وثار الرأي العام وقتها ضد الرجلين انطلاقا من أنه لا يجوز لمحافظ البنك المركزي تقاضي راتب من بنك تابع له.

عامر لا يحتفظ من عهد عبدالناصر سوى بالذكريات السيئة. ومنها ما كتبه في مقال مطول عام 2012 بعنوان «هذا هو عمي عبدالحكيم عامر ابن مصر البار} وصف فيه نظام عبدالناصر بأنه لا يختلف كثيرا عن النظام النازي وما فعله بمن عارضه من شعبه

إهدار المال العام

قام محامون بتحريك دعاوى قضائية ضد عامر بتهم فساد في ذلك الوقت اضطرته للاستقالة من منصبه عام 2013، ليعيّن في فرع البنك بلندن لمدة عامين حتى عودته لرئاسة البنك المركزي العام الماضي.

يبدو أن التاريخ سيعيد نفسه مع المصرفي العتيد حيث يواجه في الفترة الأخيرة مجموعة من البلاغات تتهمه بإهدار المال العام والتربح وتربيح الغير والإضرار العمدي بالأموال والمصالح المعهودة إليه، على خلفية قيامه بضخ 500 مليون دولار، في عطاء استثنائي مفاجئ، قبل 4 أيام من قرار البنك المركزي بخفض قيمة الجنيه أمام الدولار بفارق 1.12 جنيه.

وقال المدعون أن تصرّف المحافظ غير المبرّر أدّى إلى إهدار 560 مليون جنيه، عبارة عن فارق بيع العطاء المذكور، قبل خفض الجنيه بـ4 أيام فقط.

أمام تصاعد العداء بين عامر وقطاعات عديدة من رجال الأعمال والمسؤولين فضلا عن رجال الإعلام، تزايدت شائعات عن قرب إقالته من منصبه وهو ما نفاه في أكثر من مناسبة، لكن يبقى الاحتمال قائما ليقدّمه النظام قربانا لوحش الرأي العام الغاضب من تردّي الأحوال الاقتصادية.

13