الشريط الكندي "أحلام الطين": عين أم على طفل يحب السينما

“أعلم أنك تعاني من الصعوبات يا ولدي، ولكن يوما ما سوف تتذكر كل هذا وتضحك، طريق الطموحات العالية هو طريق موحل دائما، لكن إذا سِرتَ خلاله بما يكفي، سوف تأخذك إلى أي مكان تريد، التعليم سيمنحك هدفا وهوية، وهذا هو الشيء الذي سينتشلُكَ من كل هذا الطين”، بهذا ينطلق الفيلم السينمائي القصير “أحلام الطين” للمخرج السوري المقيم في كندا محمد حسن سعدون.
الفيلم جاء في خمس عشرة دقيقة أرادها سعدون صادمة بما تحمله من رحلة حياة لطفل سوري نحو دراسة الإخراج السينمائي في كندا، حيث أخذه الوطن البديل الجديد نحو عالم آخر بعيدا عن الشرق الذي ظلَّ الساردُ مرتبِطا به من خلال حبلٍ سُريٍّ يشدُه نحو أمِّه.
الأم التي تمثِّل في الفيلم نقطة الارتكاز للطاقة الإيجابية، في هذا النموذج الذي قدَّمه سعدون، حيث نجد تفاصيل البيئة السورية الريفية التي كانت حاملة للصورة في ظل عدم القدرة على التصوير ضمن جغرافيات
القرى السورية، الأم لعبت دورها الممثلة العالمية ميشيل سريدا، التي لقيت حتفها بعد الانتهاء من تصوير الفيلم في حادث سيارة مأساوي، ما دفع بالمخرج إلى تأجيل إطلاق المشروع عاما كاملا، حيث وافق عرضه الأول يوم رحيل سريدا في الحادي عشر من فبراير الماضي.
صراع داخلي
"أحلام الطين" يعتبر من الأفلام السورية الأولى التي تم تقديمها بأبطال أجانب وتم عرضها بلغة غير عربية، حيث كانت الإنكليزية هي لغة السيناريو والحوار.
الطفل سليمان الذي يغوص في الطين خلال لعبه في الريف السوري، تبدأ الأم بحثِّه على التعليم بوصفه المنقذ له والقادر على انتشاله من الواقع الذي تتمرد هي عليه وتدفعه إلى التمرد أيضا من خلال الدراسة.
يقول محمد سعدون “إن الصراع الداخلي الذي يعيشه بطل الفيلم، سليمان، هو صراع السوري البسيط بين الماضي والمستقبل، الذاكرة والطموح، الوطن والوطن البديل”. فتنوع البلدان التي يعبرها البطل استخدمه المخرج ليعزز من خلاله ثيمة العمل ورسالته التي تقول إن الإنسانية واحدة وإن الاندماج مع الآخر قد يحدث دون أن يكون هناك أي تنازل عن القيم والإرادة، بقدر ما هو تنازل ورجوع إلى الفطرة.
يتحدث الفيلم عن صراع دائر على الأرض السورية ورغم محاولته إظهار الاحتجاجات عبر لقطات من المظاهرات السلمية التي عمّت المدن السورية مع انطلاق الاحتجاجات ضد النظام، إلاّ أن الهم الإنساني هو الذي يسيطر على الإيقاع الدرامي في الفيلم، وعن هذا يقول ضيف “العرب” موضحا “إن ظهور السياسة في كل التفاصيل بات أمرا بديهيا والمعالجة لا تتطلب إظهار الموقف السياسي بشكل مباشر”.
فالهدف كما يراه المخرج السوري هو التأثير في عاطفة المتلقي ومشاعره بدلا من التأثير في عقله الذي يتعرض للغزو اليومي من قبل المحطات الإخبارية، ينطلق ضيفنا نحو هذا من إيمانه بأنّ كل ثورات الشعوب المسحوقة صاحبتها حركات فنية تعبيرية اكتفت في الكثير من الأحيان بنقل الصورة الإنسانية للمعاناة، كدافع لجعل المتلقي أكثر اهتماما بالبحث عن طرق لمعالجة الجذور السياسية والاقتصادية لهذه المعاناة، وهذا أمر افتقدته الثورة السورية إلى حدّ كبير.
"أحلام الطين" يعتبر من الأفلام السورية الأولى التي تم تقديمها بأبطال أجانب وتم عرضها بلغة غير عربية
الطريق من إحدى بلدات ريف القامشلي في الجزيرة العربية بالشمال السوري إلى دبي في الإمارات العربية المتحدة ومنها إلى كندا، حيث يسعى السارد كي يُكمِل منحة دراسة الإخراج السينمائي هناك، فالتقاطع بين السارد والمخرج جاء في نقاط عديدة أبرزها الخلفية الاجتماعية وغياب الأب، حيث لا يظهر والد الطفل في الفيلم أبدا، كما تسمّر إحساس محمد سعدون في الواقع، حيث غاب والده لمدة عامين في سجون النظام السوري.
يؤكد ضيفنا أن بطل الفيلم يتقاطع مع قصته الشخصية مكانيا ونفسيا إلى حدّ بعيد، ولكنه يبتعد من حيث الإحداثيات الدرامية التي يمر بها ويعايشها، فكلاهما انتقل من سوريا إلى الإمارات ومن ثمّ إلى كندا، وكلاهما راقب ما يحدث في الشرق من أقاصي الكرة الأرضية، وهذه المعايشة اليومية للحدث البعيد بين البطَلَين هي التي دفعت بفريق العمل الكندي المحترف إلى التطوع من أجل نقل معاناة ووجع الشعب السوري.
الاغتراب الحتمي
عن تعدد الأماكن الجغرافية في “أحلام الطين” يقول سعدون إن الفيلم حاول أن يراوح دائما بين وطنين، أحدهما متعلق بالجذور والآخر متعلق بالمستقبل، وهذه الصورة كما يراها سعدون كانت شبه حتمية بالنسبة إلى الشاب السوري خلال العقود الأخيرة من الزمن في ظل نظام سلب هذا الشاب خيرات وطنه وجعله سجين دائرة الفساد وتقييد الحريات.
من هنا كان انتقال سليمان للعمل في دبي حتى ما قبل اندلاع الثورة كحل حياتي ليس له بديل تقريبا، حتى من وجهة نظر الأم الأكثر حرصا على مستقبل بطل الفيلم، ومن هنا أيضا لم يكن المنفى اختياريا تماما بالنسبة إلى بطل الفيلم حاله حال معظم الشباب السوري، وبالتالي لم يعد مفهوم الوطن بالنسبة إلى السوريين البسطاء مكانيا -بحسب ضيفنا- بقدر ما أصبح الوطن ذكريات وآمالا ومشاعر يحملونها معهم خلال ترحالهم الطويل بين الأوطان البديلة.
الأم هي صلة الوصل بين البطل ووطنه في الفيلم، وارتباط البطل بها هو حقيقة ارتباطه بعموم الوطن ومدنه، وفقدان الوالدة وترك مصيرها مجهولا هو ترميز للشعور بفقدان الوطن وللمصير المجهول الذي يواجهه هذا الوطن في الوقت الراهن، ومقابلة الأم الكندية ومساندتها لسليمان في غربته هو ترميز لأهمية الوطن البديل والاندماج معه بالنسبة إلى هذا السوري، بسيط الطموحات والآمال، والعميق جدا في أحزانه وصراعاته الداخلية.
المكان المنتقل إليه في حركة الكاميرا بين سوريا والإمارات وكندا كان عبر الزمان ممتدا لما يقارب العقدين تقريبا، اعتمد المخرج في الانتقال بين هذه الأمكنة على فكرة التداعي الحر للمخيّلة الانتقائية، وفي هذه النقطة كان يمكن تحميل الفيلم القصة الدرامية كاملة ليكون فيلما طويلا، وهذا ما منعته الإمكانيات الإنتاجية لفريق العمل.