كنت رائعة كعطرك العالق في الوسادة

تتيح الشذرة الشعرية كجنس أدبي لكاتبها أن ينساب دون أي قيد، إذ تعفيه من ضوابط القصيدة الكاملة، لينساب حرا، نبضا يدلل نبضا وراء أهوائه وتخيلاته، مكثفا حساسيته ببضع جمل تعكس صورة الآن فقط، بوصف الإشراقة الشعرية التي تداري رهافة الحسّ بعيدا عن البناء الملحمي وتقنياته. وبالرغم من الانتقادات الموجهة إلى هذا النوع الشعري فإنه لا يمكن إنكاره كليا بوصفه يسمح للتجربة الشعرية بأن تكون أكثر انفلاتا وسعيا نحو الشعر كمرآة للذات.
السبت 2016/07/02
نهاية مجهولة (لوحة للفنان حسين الشبح)

يكشف الكاتب التونسي نبيل درغوث في محاولته الشعرية الأولى بعنوان “مبقّعة بالكذب” حساسيته الذاتية تجاه ما حوله، عزلته، نبضه الذي يفلت منه لأقل تغيير أو هبوب مفاجئ لرياح الخوف، لنقرأه في رحلة انعتاق تمتد لليلة واحدة عبر فضاءات متباينة، بين حانة وحضن امرأة ثم فراغ لا متناه يفتت كيانه، وتصنف مجموعة النصوص التي عمل عليها درغوث كشذرات شعريّة حسب علامة التجنيس.

ظلام الوحدة

يحمل الكتاب، الصادر هذا العام عن مؤسسة أروقة للدراسات والنشر، موضوعة واحدة ألا وهي “الليل”، إذ تأتي أقسامه الأربعة معنونة بمراحل تدرّج الليل واشتداده، وهي “العتمة، الفحمة، الجهمة، وسكون الليل”، ليختلف الإيقاع في كل جزء، بحسب الفضاء الذي يخلقه الظلام، ليكتشف درغوث دربه بالكلمات متلمساً نهايةً حتى هو نفسه لا يعرفها.

تحضر في القسم الأول إرهاصات الوحدة وخيانات الآخرين لدرغوث، إذ يستدعي المقدّس بوصفه شاهداً على خساراته لنقرأ ” تحترق/ الصداقة/ سيجارة/ يوسف../ إخوته رموه في البئر” ، فدرغوث يسلخ من حوله عن ذاته، خائضاً رحلته وحيداً، لتكون بدايات تصوّفه/ اعتزاله أشبه بتلك التي قام بها واصل بن عطاء حين اعتزل من حوله، لنقرأ التناص مع هذه الحادثة التاريخيّة بقوله” وقفت عقارب الساعة عند منتصف الليل../ منزلة بين المنزلتين../ زمن الإقامة الجبريّة..”، فدرغوث يقف في اللاحسم، حيث بدايات الليل نازعاً أشلاء الضوء المتبقية ليغوص في الظلام.

في القسم الثاني المعنون بـ”الفحمة” تبدأ الأنثى بالظهور، بوصفها الغواية المرتبطة بالليل، فدرغوث في حانة يتأمل ما حوله، يترك الغواية تداعبه، يقول ”هل تتذكرينني؟ / التقيتك البارحة/ كنت رائعة/ كعطرك العالق بوسادتي/ كنت فاتنة مثل “مارلين مونرو” لها عشاق كثر/ عشقك لا يحتمل، لا شرك ولا اشتراكيّة أنت لي وحدي/ سأعبئ مسدسي”، تختفي الأنثى/ الغواية وتشتد وحدة درغوث، لتبدو الأنثى التي كانت تغويه محض خيال، هي مزيج من الخسارات والفشل، لنراه بعدها يراقص نفسه على إيقاع أنفاسه، أشبه بسكير غارق في أوهامه، أو جثة تداعب آخر أنفاس الحياة شبقاً قبل الموت.

عزلة نبيل درغوث نار يطهر فيها نفسه لتكون الشذرات سلسلة من الانعتاقات من أجل ولادة جديدة

في “الجهمة” يستسلم درغوث الأربعيني نهائياً لمصيره، وحيداً دون أي صاحب، يغوي موته، تاركاً إياه يأخذ بيده، لا مبالياً بمن سقطوا حوله، يقول”أيها الشاب/ رأيتك تتخبط في البحر/ ارتبكت../كيف السبيل إلى إنقاذك/ وأنا الغريق ؟”، يبدو درغوث بعدها حالماً ببعث ما، بخيط يسحبه عالياً، فعزلته نارٌ يطهّر فيها نفسه، لتكون الشذرات سلسلة من الانعتاقات التي يمر بها من أجل ولادة جديدة، من أجل آخر يشابهه لكن أشد حضوراً منه الآن، وبعيداً عن تلافيف اليومي المتهتك، فالعزلة سبيله لتكوين قطيعة مع اليومي، لتأتي الشذرات كضربات فأس تجتث البالي نحو الطهراني المنعتق، ليصبح درغوث حراً كنبض، كشعر يجتاز اليومي نحو المتسامي.

أسئلة النهايات

في القسم الأخير، يقف درغوث أمام رقعة من فراغ، أمام حلبة خالية إلا من نفسه، كلماته تشكّل تفاصيل ما تبقى، فهو معلق من جلدة دماغه يتمايل على وقع كلماته، بانتظار بعثه، بانتظار وميض شعريّ يسحبه بعيداً لعل في ذلك تكون نجاته، فدون القصيدة سيغرق درغوث في النوم/ الموت منسياً، لا بد من خلاص من غوايات الغياب التي تشدّه إليها، وإلا سيغرق في استكانة أبديّة، حيث غياب كامل وصمت يعجز حتى الشعر عنه، إذ يقول أخيراً “أنا وهمّي في الشرفة/ سقط حرف من الجملة/ أنا وهم”.

الانحلال مع صيغة الغياب التي وصل إليها درغوث دفعه إلى التلاشي، للتشكيك بوجوده وكلماته التي بدأت تختفي، لكن رحلة الليل الطويلة في غياهب العزلة ستنتهي مع الفجر، مع أول خيط للنور، حيث الصخب اليومي، ليعود الأربعيني إلى يومه مقاتلاً طواحين التفاهة والثرثرة اليوميّة. تجربة درغوث الشعريّة مازالت في بداياتها، وخصوصاً اختياره للشذرة التي مازالت تصارع لتكون جنساً أدبياً متماسكا، فدرغوث كما ديوانه، مازال يتلمس طريقه في سبيل إيجاد صوته الشعري المتفرد، باحثاً في ذاته عن تلك الإضاءات المتفردة في سبيل إيجاد القصيدة.

يذكر أن نبيل درغوث يعمل في النقد الأدبي، إذ صدر له كتاب “العين الساردة” عام 2008، إلى جانب العديد من المقالات النقدية، وهو من مؤسسي مجلة المشهد الأدبي الإلكترونية المتخصصة بقضايا النقد، ويجهز حالياً لكتاب “أسئلة الفكر العربي المعاصر”.

16