الإبداع عملية معقدة تجمع بين الرغبة الجارفة والعمل المضني

ترى سوزان واينشينك -أستاذة علم نفس السلوك الأميركية- أن الإبداع ليس سمة محددة يمتلكها بعض الأشخاص ويفقدها آخرون، بل هي عبارة عن عملية معقدة من الجهود الفردية والرغبة الجارفة والعمل المضني، لهذا ينظر الناس للإبداع وفق منظورهم الشخصي أحياناً واعتماداً على تعريفات معتمدة من قبل متخصصين، بيد أن واينشينك تتبنى تعريفاً محدداً للإبداع وترى فيه شمولية ومصداقية أكثر من غيره.
فالإبداع من وجهة نظرها هو سلسلة من العمليات لتوليد أفكار جديدة، أو بدائل لأشياء أو أفكار موجودة في الأصل ومحاولة تطويرها أو الإضافة إليها، بحيث يكون المنتج شيئا فريدا من نوعه وذا قيمة معينة للبعض من الناس. هذه السلسلة من العمليات تعني أن الإبداع ليس حكراً على أحد، وإذا كان هناك من يمتلك البذرة والملكة فإن الجهد الفردي والمراحل العملية التي ينبغي اتباعها أمر مهم ولا يقل أهمية عن الفطرة، مع ضرورة الحصول على نتائج واضحة فالمراحل العملية لا تولّد إبداعاً يذكر من دون الحصول على نتيجة أو شيء ملموس.
ولعل أهمية هذا التعريف تكمن في كلمة “فريد”، فالإبداع في أي مجال من مجالات الفن والمعرفة لا بد أن يؤدي إلى خلق مفهوم أو فكرة فريدة ومميزة، أما القيمة فوجودها شرط لتحقق مفهوم الإبداع، فمن دون تحقيق الإبداع لقيمة معينة -حتى وإن كانت لشريحة معينة من الناس- لا يمكن لهذا الإبداع أن يكتسب أي أهمية، إذ يجب أن يصب في بوتقة تطوير حياة الإنسان وتغييرها وجعلها أفضل خاصة إذا كانت هذه القيمة روحية أو أخلاقية، وهذا جلي أكثر في ما يتعلق بالفنون والآداب عموماً. ومع ذلك، فإن هذا التعريف لا يقدم إجابة واضحة عن المبدعين وتميزهم عن أفراد المجتمع العاديين.
وترى واينشينك أن بعض المفاهيم مازالت شائعة ومتداولة حتى في بعض الأوساط الأكاديمية في ما يتعلق بالإبداع، وأبرزها أن بعض الأشخاص يولدون مبدعين لتصبح سمة الإبداع خصلة طبيعية لديهم، وعلى الرغم من أن هؤلاء فعلاً يقضون أغلب أوقاتهم في النشاط الإبداعي مقارنة بالآخرين، فإن المختصين في علم الفسيولوجيا كانوا قد حسموا هذا الأمر بالإشارة إلى أن هناك منطقة في الدماغ تتعلق بالفعل الإبداعي، يمكن تحفيزها بفعل بعض النشاطات المعينة وهذا يعني أن الفرصة متساوية أمام الجميع ليصبحوا مبدعين، كما أن الإبداع لا يتحدد بالفن أو الفنون الجميلة وما يتعلق بها، بل يكمن أيضاً في التصميم والطبخ والبرمجة وحل المشكلات.
الجانب الأيمن من الدماغ البشري يحتكر الإبداع في حين يتعلق الجانب الأيسر منه بالأمور المنطقية والعقلانية والتحليلية
وفي المقابل، يتم تداول فكرة أن الجانب الأيمن من الدماغ البشري يحتكر الإبداع في حين يتعلق الجانب الأيسر منه بالأمور المنطقية والعقلانية والتحليلية، لذلك اعتاد البعض من الناس تعريف الأشخاص الذين يمتلكون سمة الإبداع والخلق بأنهم يميلون إلى استخدام الجزء الأيمن من دماغهم وهذا يعني أن الآخرين يميلون إلى استخدام الجزء الأيسر بطبيعة الحال. لكن هذا الوصف ليس دقيقاً بالضرورة، فهناك بالتأكيد جانبان في الدماغ ويصح القول بأن بعض البنى في الجانب الأيمن تختلف عن مثيلاتها في الجانب الأيسر، على سبيل المثال كل ما يتعلق بالقدرة على التحدث وفهم اللغة موجود في الجانب الأيسر وكل ما يتعلق بالوعي موجود في الجانب الأيمن. إلا أنه من غير المناسب أن نقول عن شخص يستمع إلى الموسيقى إنه يستخدم دماغه الأيمن فقط، فهذا التفسير مبسط للغاية وغير منطقي، كما يلاحظ أن بعض المناطق في كلا الجانبين من الدماغ تنشط عند الاستماع إلى الموسيقى، حتى لو كان الشخص المستمع لا يمتلك أي قدرة في مجال العزف على الآلات الموسيقية.
ويعلل علماء فسيولوجيا الدماغ الأمر بأن حزمة الألياف العصبية التي تربط جزئي الدماغ أو ما يطلق عليه (مجموعة كالموسوم)، تمر من خلالها المعلومات بصورة سريعة في شكل نبضات عصبية. ولهذا فإنها، أي المعلومات، لا تبقى في مكان واحد مدة طويلة، وحتى لو بدأ شيء ما في جانب واحد من الدماغ فإنه لا يستقر هناك لفترة طويلة وسرعان ما ينتقل إلى الجانب الآخر. ولهذا، عندما يقول أحد الأشخاص بأنه يستخدم دماغه الأيسر أو الأيمن بصورة أكبر، فهو لا يشير بالضرورة إلى جانبي الدماغ الفعليين بل إلى أسلوبه في التفكير والتعلم أو معالجة المعلومات.
ويرى الدكتور كارل ألبرشت -وهو باحث أميركي في مجال تنمية مهارات التفكير والأساليب المعرفية المتقدمة- أن كل فرد يميل إلى أحد خيارين في ما يتعلق بنمط تفكيره واهتماماته؛ وهما بحسب نظريات حديثة صادق عليها علماء السلوك خيار “الفعل” وخيار “الاسم”، و”الاسم” وفقاً لهذا التصوّر يعني اعتماد الفرد على أسس تفكير ثابتة ومتقاربة مثل اليقين والاستنتاجات المنطقية والآراء الثابتة، وهذا يعني تجنبه للغموض والتأويلات المتنوعة. أما أصحاب “الفعل” -وهم الأشخاص الذين يميلون إلى نمط التفكير التباعدي أو المتشعب- فهم على عكس أصحاب “الاسم”، يميلون إلى الاحتمالات والخيارات المتعددة ويفضلون مقاربة الأمور والأحداث من منظور يعتمد الغموض والتعقيد، وهؤلاء يصفهم متخصصون بأنهم أصحاب البصيرة العميقة وهم في الأغلب الأفراد المبدعون. لكن ألبرشت لا يفاضل بين هذين النمطين من التفكير، فلكل نمط إيجابياته وسلبياته وليس بالضرورة أن يكون أحدهما إشارة إلى الإبداع في المطلق، فبعض الأشخاص يجمعون بين النمطين في طريقة تفكيرهم ورؤيتهم لهذا العالم وفق توليفة فلسفية معينة لا تعتمد قوالب التصنيف المحددة.