البرلمان الجزائري يخرق وعد بناء الدولة المدنية
تميزت الجلسة التي خصصها البرلمان الجزائري مؤخرا، لمناقشة مشروعي فرض قانون “التحفظ على الضباط السامين المتقاعدين في الجيش”، بخرق المزاعم التي ما فتئ النظام الحاكم في الجزائر يطلقها ويسوَقها، منذ سنوات طويلة وأيضا في الفترة الماضية التي تم فيها الشروع في مناقشة مشروع الدستور الجديد في أروقة الأجهزة التابعة له، وأثناء تقديم ذلك الدستور للمصادقة عليه من طرف هذا البرلمان نفسه، بأن عهد دولة الأمن والعسكر انتهت فصوله، وأن شمس الدولة المدنية أشرقت على جميع الجزائريين.
ظاهريا يبدو أن المبرر الذي يسوّغ به النظام الجزائري إجراء فرض قانون التحفظ على ضباط الجيش الكبار المتقاعدين هو إبعاد هؤلاء عن الصراعات السياسية والحيلولة دون إفشاء الأسرار العسكرية سواء عن طريق الإدلاء بالتصريحات لوسائل الإعلام، أو عن طريق المشاركة في الندوات المفتوحة لعامة الشعب، أو كتابة المذكرات ونشرها على الملأ ولكن الحقيقة هي غير ذلك.
وفي هذا السياق يرى البعض من ممثلي أحزاب المعارضة أن سنّ قانون ملزم يمنع ضباط الجيش من ممارسة حق التعبير عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة هو إخلال صريح بالمساواة بين الشعب وبين مؤسسة الجيش.
وفي الواقع فإن تدخلات النظام الجزائري لخنق الحريات في المجتمع الجزائري ليست جديدة، بل هي أغنية قديمة يعرفها القاصي والداني، وهناك أدلة كثيرة وفي جميع المجالات بما في ذلك مجالا الأمن والعسكر. ولم يسمح النظام الحاكم إلى حدّ الآن بكتابة التاريخ الوطني كتابة محايدة وعلمية في مناخ ديمقراطي بشكل عام، وتاريخ ثورة أول نوفمبر 1954 بشكل خاص. وإلى حد الساعة لم يتمّ الفصل في قضايا عسكرية كثيرة معقدة وممنوعة دائما، علما أنه من المفترض أن مثل هذه القضايا جزء لا يتجزأ من الذاكرة الوطنية مثل ملابسات مقتل العقيد عميروش، وعبان رمضان، والعقيد محمد شعباني وغيرها من القضايا التي تخفى على الشعب الجزائري ولا يسمح لأي مؤرخ أو شاهد عيان أن يفتح النقاش حولها، أو يكشف عن المتورطين في عمليات التصفيات الجسدية لضباط الثورة الكبار أثناء مرحلة الكفاح المسلح، أو في مرحلة الاستقلال الوطني بعد 1962.
في هذا الخصوص أشار الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، في الجزء الأول من مذكراته المنشورة في كتاب، والتي أملاها مباشرة على المترجم الجزائري وأستاذ الإعلام عبدالعزيز بوبكير على مراحل وفي سرية كاملة ببيته، إلى ضلوع البعض من الرموز الكبار في مؤسسة الجيش في إصدار وتنفيذ حكم الإعدام على المجاهد العقيد محمد شعباني عام 1964 والذي تمّ بموجبه قتله ودفنه سريا.
ولا شك أن سرا خطيرا بهذا الحجم وغيره من الأسرار قد لعبت جميعا ولا تزال تلعب دورا مفصليا في تكتم النظام الحاكم بالجزائر عن أسرار إضافية أخرى ومنع الكشف عنها بقوة. وفضلا عن ذلك فإن عدم السماح بظهور الجزء الثاني من مذكرات الرئيس الراحل بن جديد في كتاب يعني الكثير، علما أنها لا تزال مقيدة في الأدراج بإيعاز من جهات عليا في أجهزة الدولة وخاصة جهازي الأمن والجيش، لأن هذا الجزء الثاني من مذكرات الرئيس بن جديد يحتوي فعلا على حقائق وأسرار جدّ حساسة، وخاصة ما يتعلق بخلافه مع البعض من الضباط الكبار في الجيش حول مغامرة إلغاء المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية (البرلمانية) في يناير 1992، وهو الأمر الذي أدّى إلى تخليه عن منصب رئيس الجمهورية أو إلى فرض التخلي عنه، علما أن هذه المسألة لا تزال بدورها معتمة ولا يعلم الشعب الجزائري بملابساتها وحقائقها إلى يومنا هذا بشكل واضح. إن هذا يعني في التحليل الأخير تغطية دور مختلف الفاعلين في الأزمة بما في ذلك مؤسسة الجيش وذلك في الفترة الممهدة للعشرية الدموية، وما أسفرت عنه من صراع واقتتال دموي بأغطية فولاذية إلى يومنا هذا.
في هذا السياق يرى المحللون السياسيون أن سيناريو إنشاء هيئة لضبط مجال الإعلام المكتوب والسمعي البصري لا يرمي حقا إلى تنظيم هذا القطاع بما يخدم الالتزام بأخلاقيات العمل الإعلامي وترقية المهنة الإعلامية، بل إنه يهدف في العمق إلى كبت حرية التعبير وقمع الأصوات التي تطالب بالشفافية وكشف الحقائق ذات الصلة بالتاريخ الوطني، وبالفساد المالي والسياسي راهنا.
بناء على ما تقدم يبدو أن سعي النظام الجزائري من خلال جهاز البرلمان التابع له لفرض قانون التحفظ على الضباط السامين في الجيش والمحالين على التقاعد، يمثل تقسيما للمجتمع إلى فئتين؛ فئة الشعب الذي يحاسب وتفرض عليه القوانين فرضا تعسفيا، وفئة النخبة العسكرية المتقاعدة التي لا يحاسب البعض من ضباطها الكبار على أخطائهم المهنية أو على ثرائهم غير الشرعي، ولا يسمح لبعضهم الآخر بممارسة النقد الذاتي من خلال المشاركة في النقاش وبواسطة التصريح عبر وسائل الإعلام.
هذا السلوك يرسم البرلمان الجزائري كبوق للنظام الحاكم ومنفذ لأوامره، وبذلك يكون قد تخلى كعادته عن مهامه الحقيقية التي تتمثل في أن يكون مسرحا حقيقيا لمناقشة مشاريع القوانين بنزاهة من طرف أعضائه الذين يفترض فيهم أن يكونوا ممثلين للشعب وناطقين باسمه، خاصة وأنه هو الذي انتخب ثلثين منهم وهم الأغلبية. مما يؤسف له أيضا هو أن أحزاب الموالاة، اكتفت أثناء مناقشة مشروع قانون ضباط الجيش الكبار المتقاعدين من ممارسة حقهم في التعبير عن آرائهم ونشرها في وسائل الإعلام، بالدفاع عن النظام الحاكم وتبرير تدخلاته في قضايا قانونية يفترض أنها ليست من اختصاصه وصلاحياته، أما الأحزاب المدعوة بالمعارضة، على اختلاف مللها ونحلها، فإنها قد اكتفت بمداخلات محتشمة لم تتجاوز نطاق إظهار تخوفاتها من استخدام مثل هذا القانون لتصفية حسابات سياسية.
كاتب جزائري