بين القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر
يجزم بعض النقاد أن القصة القصيرة جدا، رغم كونها لا تزال في طور النمو والاستواء والاعتدال والاكتمال، إلا أنها تعتبر مستقبل السرديات بامتياز، وستحقق من دون شك جاذبيتها الخارقة في القريب العاجل، استنادا إلى أن العالم يتجه في جميع المجالات، خاصة المجال التقني، إلى كل ما هو سريع، بل فائق السرعة. فيما يذهب نقاد آخرون إلى أنها وصلت إلى طريق مسدود بسبب الإفراط في التكثيف والوقوع في التكرار، وخلو النصوص من مقومات فنية بديلة لتلك التي تميزت بها القصة القصيرة (الكلاسيكية) على مدى العصور، من حدث، وشخصية، ومن زمن تقع فيه الحكاية، ومن لحظة تأزم، فلحظة تنوير، فوجهة نظر، ومشاهد تضع القارئ في أجواء سردية شيقة ترتقي به سلالم من الدهشة.
وفي رأيي أن كلا الطرفين يفرط أو يغالي في رؤيته “الإطلاقية” لهذا الشكل السردي، فهو شأنه شأن أي شكل أدبي آخر له حضور يتجاور مع الأشكال الأخرى، لن يطغى ولن يضعف، يُنتج كتّابه نماذج جيدة ونماذج رديئة. لكن ما يُلاحظ أن الحدود تكاد تمحي بينه وبين قصيدة النثر ذات المنحى السردي، وهي غالبا ما تكون كذلك لأن السرد من سماتها الرئيسة، فتصعب على القارئ العادي، أحيانا، معرفة ما إذا كان النص الذي يقرأه قصة قصيرة جدا أم قصيدة نثر، خاصة عندما يُرفع عنه اسم صاحبه، وإليكم هذين النصين، تمثيلا لا حصرا:
النص الأول: “أوقفني في مبغى خارج هذه المدينة، كان غاضبا، صرخ سائلا”:
- ماذا تفعلُ هنا؟
- هذا ما أردتُ أن أسألكَ عنه حين رأيتكَ تقتربْ.
يبتعد وهو يشتم لا أعرف مَن، ثم يلتفت ويقول:
- وتدخّن أيضا؟
- لا أدخّن وإنما أحشّش.
- تحشّش في مبغى؟ شاعر يحشّش في مبغى؟
- مسموح هنا. شاعر يحشّش في مبغى عنوان جميل، سأستخدمه، شكرا لك.
يشتم، وهو يبتعد، لا أعرف مَن”.
النص الثاني: “ثمة حمامة تتحرك على سطح المنزل، على امتداد نظره، وخلف البنايات كانت القمة تلوح، وطيور مسرعة تظهر ثم تختفي.
ارتفع بكوعه على حافة النافذة ثم استدار وتفحص غرفته عندما سمع جرس الباب.
ابتسمت امرأة تحمل طفلا وهي تنتظر.. فتح الباب بكامله وأشار إليها أن تدخل، ثم أغلقه خلفها، وعاد نحو النافذة. جلست هي على السرير، ثم وضعت طفلها على الأرض وانتظرت.
سألها مشيرا إلى الطفل:
- هل هو طفلك؟
هزت رأسها مؤيدة، وهي ترفع مؤخرتها وتجلس وسط السرير. واستطرد:
- هل له أب؟
أجابته:
- ذهب إلى الحرب.
أخذ الطفل يتحرك ويزحف متعلقا بحافة السرير، وكانت المرأة لا تشبه اللواتي يقرعن الأبواب، لكنهن أصبحن كثيرات ولم يعد التمييز بينهن يسيرا”.
أعتقد لو أن قارئا عاديا، ليست له دراية بجماليات قصيدة النثر، قرأ هذين النصين لعدّهما، حتما، قصتين قصيرتين جدا، ولما فطن إلى أن الأول قصيدة نثر (وهي للشاعر صلاح فائق)، والثاني قصة قصيرة جدا (وهي للقاص خالد الراوي)، ذلك لأن كليهما تنتظمه بنية حكائية فيها حدث وشخصيتان يجري بينهما حوار، وهما من مقومات النص السردي.
كاتب من العراق