رواية عن الجنوب الأميركي والصراعات العنصرية

نالت الكاتبة الأميركية هاربر لي شهرة واسعة عن روايتها “أن تقتل طائرا محاكيا”، التي نشرت عام 1960، وحصلت إثرها على جائزة البوليتزر عن فئة الأدب. تعتبر الرواية من كلاسيكيات الأدب الأميركي لما تمسه من مراحل حساسة من تاريخ الولايات المتحدة والجنوب الأميركي، وبعدها امتنعت الكاتبة عن الكتابة، إذ عاشت في شقتها بصمت حتى فارقت الحياة العام الماضي، تاركة القرّاء في حيرة عن حقيقة سبب توقفها عن الكتابة.
العام الماضي وقبل وفاة الكاتبة بصمت في سريرها داخل شقتها المتواضعة، وافقت هاربر لي على نشر “اذهب أقم حارساً”، الرواية التي روّج لها الناشر على أنها تتمة للرواية الأولى التي ألّفتها الكاتبة لكشف ماضي شخوصها، لكن في الحقيقة المخطوط كتب قبل “أن تقتل طائرا محاكيا”، بل ويقال إنها المسودة الأولى لها، وتثار الشكوك حول حقيقة موافقة لي على نشر المسودة كرواية، “اذهب أقم حارساً” صدرت هذا العام باللغة العربيّة عن “الدار العربيّة للعلوم ناشرون”، ترجمة زينة إدريس.
توترات عرقية
تحكي رواية “اذهب أقم حارساً” قصة جاين لويس فينش، ذات الستة والعشرين عاما، والتي تعود إلى قريتها المتخيّلة “مايكومب” في الجنوب الأميركي، بعد أن كانت تعيش في نيويورك. الرواية تتلمس العلاقة بين جاين وأسرتها، وحساسية فترة الخمسينات في أميركا، لترسم بصورة متخيلة طبيعة التمييز العنصري، ليكون الصراع بين “أبيض” و”أبيض”، ومعالم المعضلة الأخلاقية المرتبطة بدمج “الأسود” في المجتمع، لا بوصفه غريبا بل باعتباره جزءا من التكوين الاجتماعي، والنظر إليه لا بوصفه أقل شأنا أو مرتبة، بل باعتباره شبيها لا يختلف بشيء سواء في الحقوق أو في المكانة الإنسانية، وتأثير ذلك على تكوين الأسرة الأميركية.
|
عنوان الرواية مستمد من الكتاب المقدس، من سفر إسحاق، وتتناول الرواية العلاقة بين الأب أتيكوس وابنته جاين لويس، خصوصا في ظل التوترات العرقيّة التي شهدها الجنوب الأميركي، إذ تظهر العديد من شخوص “اقتل طائرا محاكياً” في هذه الرواية لكن بصورة أخرى أكثر وضوحاً لتعبر عن مواقفها، فحين عودة جاين لويس إلى قريتها تلتقي والدها وحبيبها، لكن هناك -ونتيجة تصعيد التوتر العرقي ضد السود- تكتشف إثر تسللها إلى مجلس المدينة أن كلّا من أبيها وحبيبها يقيم اجتماعات ضد السود ويحرض على طردهم، بوصفهم وباءً.
الصدمة التي تلقتها شكلت عائقا في استمرار علاقتها مع الاثنين، بل حتى أنها ترفض الزواج من حبيبها، هذه الصراعات تقودها في النهاية إلى رفض أسرتها، بالرغم من أنها تعتقد أن القرية أصبحت أكثر نضجاً للتغير، لكن ما رأته يؤكد على أن العنصرية في الجنوب ضد السود ثقافة متأصلة، وموقف أصبح على أساسه يحكم على الأشخاص وعلى انتمائهم، لتغدو الكراهية ورفض الآخر معياراً للانتماء.
تُفكك الرواية العلاقات الأسرية، صيغة التقديس التي كانت تكنها جاين لويس لوالدها تنهار عندما تعرف آراءه بل وتراه يمارسها علناً، هي تفقد حارسها الأخلاقي، الصورة المثالية التي كونتها عن الرجل تنهار، فانطلاقتها في حياة المدينة التي كونتها كـ”امرأة” تتناقض مع مفهوم “المرأة” في مسقط رأسها، إلى جانب ذلك تكتشف داء العنصرية هناك، والرفض لا فقط للسود، بل للمرأة بالصورة التي وصلت “هي” إليها، فعليها أن تكون ربة منزل، تطيع من حولها، أما الأب الذي من المفترض أن يكون المدافع فنراه مجرد شخص آخر ينساق وراء آراء المجتمع، حين تلجأ إلى الصورة المشابهة له، عمها، تجابه بصفعة، صفعة حقيقية ومجازية، فهي حسب عمّها أيضاً وقعت في فخ الكراهية ورفض الآخر، هي أيضا لم تعد قادرة على تقبل الآخر.
المعضلات التي تطرحها هاربر لي تتجاوز الحكاية لتخضعنا نحن أنفسنا للتساؤل، وفي حالة جاين لويس، نراها تتقبل والدها وتتجاوز كرهها له، تراه كائنا بشريّا الآن، على عيوبه التي قد لا تشبه ما تتخيله عنه، هو لم يعد كائناً مثاليا، بل صار إنسانا يحب ويكره، ويدافع عن آرائه -الخاطئة- كما تفعل هي.
|
تروي هاربر لي الحكاية بحذر، تراقب شخوصها وهي تنمو، أفعالها البسيطة وهي تتراكم لتكونها أمامنا، تترك لها حرية الانسياب، والتفاعل في ما بينها، لتتكشف العلاقات بينها، تبدو في البداية واضحة صلبة، بعدها تبدأ هشاشتها وعيوبها بالتكشّف، الحقد والعنصرية يزعزعان الصورة المتخيلة التي تمتلكها جاين لويس عن قريتها، لتبقى هشاشة صلة الدم هي التي تشكل الأسرة.
غياب الآخر
الآخر المُختلف “الأسود” في الرواية نراه مهمشاً، لا يحضر كأشخاص رئيسيّين، هم منفيون حتى ضمن السرد، وهذا ما تحاول هاربر لي أن تشير إليه في اشتغالها، إذ أن الحضور ضمن المتن الروائي يستدعي أصواتاً لهؤلاء الآخرين، لكنهم بُكم، هم فقط مفاهيم وحوادث تراجيدية يجب التخلص منها، ولا تحضر إلا في حالات المواجهة التي يجب فيها نفيهم، بوصفهم دخلاء، داء لابد من علاجه.
جاين لويس غريبة دائما، وحيدة حتى في قريتها، ففي نيويورك تقول إنها تكره المدينة والصور العملاقة التي فيها والشعارات المنافقة في قطار الأنفاق، تكره سكانها وأجوبتهم السريعة عن كل شيء. أما في قريتها، وفي الإجازة التي كان من المفترض أن تعيد إليها حيويتها، فتصدم بأهلها، هم أيضاً لم يعودوا يشبهونها، هي صورة تحترق، أما الكراهية فقد تسللت لجاين لويس وموقفها من الآخرين، لتغدو بصورة ما تشبه من تكرههم ومن تقف ضدهم.